أخبار عاجلة

في لبنان ومستقبله: البيئة الخارجيّة وتحوّلاتها/ الدكتور بلال اللقيس

لمّا كانت قد ارتبطت منازلُ لبنان المتعدّدة منذ نشأته بحيثيات خارجية، سارع البعض لافتراض أنّ «الخارجي» صار جزءاً أساساً من كينونته، وذهب آخرون للتعاطي معه كامتداد ثقافي لخارج، فنظر إلى ذاته ونظّر لها من خلال الآخر الصاعد حينها، فاستلهم من تجربة الحداثة الغربية دونما تمحيص واختبار بل بإعجاب وشبق كبيرين. ساعده في ذلك حالة السطوة التي عاشتها التجربة الغربية وإنجازاتها العسكرية والسياسية في الحربين العالميتين. وفي مفارقة تستحق التّأمل نقول: رغم أنّ جميع الكيانات في منطقتنا نشأت من رحم سايكس بيكو وسان ريمون، فإنّ لبنان و«إسرائيل»، هما الكيانان الوحيدان اللذان تميّزا عن بقية كيانات المنطقة باهتمام ورعاية «خاصة» من الغرب، وهما الكيانان اللذان لا تزال تطاردهما مسألة الهوية والكينونة – مع عظيم الفارق بين حقيقتيهما. ولذلك يمكن اعتبارهما الكيانين الأكثر تعبيراً عن اتجاهات المسارات السياسية إقليمياً وربّما دولياً.

بعد أن عرضنا في المقال السابق لأبرز التحولات والنتائج المرتبطة بالفضاء الداخلي وضرورة لحظها في أي نظرة مستقبلية ترتبط بالكينونة، نطلّ في هذا المقال على الفضاء والبيئة الخارجية وتغيراتها الجوهرية وما يجب لحظه منها في بحث الكينونة.
يمكن إجمال أبرز التحولات وفق الآتي:

1-تصدّع الأطروحة الغربية
أوّل التغيّرات التي يُفترض بـ«العاقل» الاعتراف بها هو تصدّع البنية الفكرية التي حملت النظام العالمي إلى ما بعد الحربين العالميتين. فالتجربة التي نجحت في التحديث فشلت إلى حد كبير في الحداثة. ليس هذا فحسب، بل تبيّن أنّ الكثير من مباني الحداثة النظرية والفكرية هشّة ومتناقضة ولا تمتلك قدرة السير بالإنسانية والترقّي بها. يكفي تقييم حصاد الحداثة وآثارها على البشرية ومتابعة المدارس النقدية الغربية وليس اليسارية المسبوقة الموقف من الليبرالية. وتبيّن أنّ وسائل الغرب «الديموقراطي»، العسكرية منها والاقتصادية، لتطويع الشعوب والهيمنة على مواردها وتحويلها إلى كم استهلاكي، ليست أقلّ خطراً من العنصرية والإرهاب التكفيري، وأنّ خطر تهميشه للمكوّنات والشعوب وضرب خصوصياتها الذي مارستها الحداثة الغربية لم يكن أهون من الديكتاتوريات. وصار جلّ خطابها شعارات، وتحوّل إلى أدوات إرغام بدل أن يُسهم في التحرر والتحرير وتحقيق المساواة والعدالة وبلوغ حقوق الإنسان.

إذا استنطقت أي امرئ حر وموضوعي في عالمنا اليوم سيقول لك: «إنّ النموذج الغربي يحب الديموقراطيين ويُجهض أي محاولة ديموقراطية فعلية».
نعم، لقد فشلت الحداثة في الاستجابة لحاجات البشر الأصيلة فضلاً عن الاستجابة للحاجات المادية التي ادّعت احتكارها، ونتجت عن هذه الأزمة الفكرية أمور عديدة، أهمّها:
– تحّولت الليبرالية-الديموقراطية إلى إيديولوجيا لا تقل فتكاً بالبشر وبمعارضيها عن الفاشية. وتلاشت ثقافة الديموقراطية التي يفترض أنّها تقوم على الاستنارة والعقلانية والحوار والتنوّع بحسب النصوص. لم يعُد يُرى العالم بتنوعه إنّما بأُحادية أميركية قاصرة. اندرس إلى حد بعيد معنى ومضمون العقد الاجتماعي الذي نظّر له مفكّرو عصر النهضة. ابتعد الغرب عن أي إيمان بمبدأ سوى مصلحته ولو على حساب الجميع، حتّى الرؤية الديكارتية للعقل، أو المصلحة بالمنظور الماكسفيبري تمّ تجاوزهما وخصوصاً بعدما قادت الأنكلوسكسونية النموذج الغربي. عملياً، لم يعد هناك أي تنوّع فعلي في الغرب، وإذا ما ظهر بين الفينة والأخرى رأي مغاير لأميركا في الغرب فلا يرقى لأن يتميّز ويثبت أهمية التنوّع.

– حصر المسرح الدولي بين الواقعية والواقعية الجديدة من جهة، والمثالية من جهة ثانية، علماً أنّ الأخيرة ليست إلا الوجه الآخر للواقعية؛ كلتاهما ترى العالم من منظور الهيمنة وترى القيم الإنسانية وسائل وأدوات وتؤمن بالقوّة ظاهرة أو مضمرة.
– أمّا فلسفة التقانة والتطور التقني الذي تبنّته بعض اتجاهات الغرب ليكون بديلاً عن علم الأفكار والقيم، بحيث تصنع التقانة الحياة وتفسّرها، ليس خافياً ما خلّفته من طبقية وتضمّنته من هيمنة جديدة وتسلط، وخصوصاً بعدما تأكّد الجميع أن التقانة ثقافة وليست أدوات فحسب.
– برز بوضوح أنّ الدولة القومية، بمفهومها الوستفالي الكلاسيكي، تحتاج إلى مراجعة فعلية لجهة فاعليتها في هذا العالم المتغيّر وكفاءتها في مواجهة التحدّيات والنهوض بالمجتمعات، فضلاً عن أنّ منطقة غرب آسيا لم تستطع أن تهضم هذه الفكرة رغم مرور قرن على التجربة. وهذا يعود لأسباب شتّى ليس أوّلها أنّ دولنا ولدت منقوصة السيادة وليس آخرها أنّها كانت استجابة لظروف في الغرب تختلف عن حاجاتنا وظروفنا ومنتظمنا القيمي.

النظام الذي قام على واقع التلاقي بين ثنويتي «الليبرالية – الديموقراطية»/ «القوّة – التوازن»، وواقع التنافر بين «السلطة-المسؤولية» انكشف انكشافاً تاماً

– تراجعت الروح الاجتماعية والزخم في الغرب، إذ لم يعد الغرب يملك حافزَ أن يقاتل بأبنائه كما كان الحال الماضي، ولم تعد مجتمعاته ترضى بالراكب المجاني بل أصبح يقاتل بالآخرين من أجله فحسب. ومعلوم لكل متبصّر أنّه عندما تتراجع الروح الاجتماعية والمناعة فذلك يعني أنّ المشروع يتهيّأ للتراجع ولو بعد حين، خصوصاً مع فقدان من لديه جرأة ومصلحة الاعتراف بالمشكلة وقدرة المراجعة النقدية والتجديد.

– بزوغ خطاب جديد في غرب آسيا ومنها إلى العالم. خطاب يعبّر عنه محور المقاومة اليوم. أتى في لحظة تاريخية مؤاتية من ظروف منطقتنا وشكّل حاجة ماسة لشعوبها ولا سيما للأجيال الشابة، وحاكى قضية المكانة والاحترام والكرامة واستعادة الذات. ميّز هذا الطرح والخطاب أنّه انبثق من معين الأطروحة الدينية، أي من سنخية شعوبنا (مسلمين ومسيحيين)، حاكى أعماقهم، أي إيمانهم ونظرتهم إلى الحياة وقوْلة الحق. تبلور الخطاب حتى عُدّ امتداداً، فتضمّن «التواصلية»، واحتوائياً فتضمّن «الشمول»، ونقدياً فالتزم «المواكبة والعصرنة». وأثبت قدرته ورسوخه على العبور في محطات كثيرة وكبيرة في العقود الأخيرة، فنجح حين فشل الآخرون، ولم يفشل حتّى الآن في أي من خطواته الرئيسة التي أعلنها، بل تراه تقدّم في لحظة ذروة الأُحادية الأميركية وسطوتها. هذا الخطاب لم يبلغ بعد مداه التام، والأَمارات تؤكّد أنّه لا يزال في زخمه الصعودي وفتوّته.

2-يقظة الشرق… وأفريقيا

إذ لا يحتاج المتتبع إلى كثير عناء لملاحظة النقلة التي أحدثتها شعوب الشرق، وتطلعها إلى دور طليعي وصولاً إلى إعلانها رسمياً صراعها المفتوح لبلوغ التعدّدية القطبية ورفض الأُحادية – الصين والهند وإيران وروسيا وتركيا والباكستان وجنوب أفريقيا وغيرها. والكلام نفسه نراه يسري وبقوّة اليوم في أفريقيا التي تشهد ساحاتها تطورات كبرى ومتسارعة للخروج من هيمنة الغرب وطرد الاستعمار الغربي.

3-تغيّر كبير في نظرة الشعوب إلى الغرب وأميركا

شهد العالم عموماً، وغرب آسيا وأفريقيا خصوصاً، انقلاباً كبيراً جداً في نظرة الرأي العام حيال الذات، أولاً، وإدراكها الجديد، وأيضاً حيال خطاب الولايات المتّحدة والغرب عموماً، وهو ما تؤكّده مختلف الدراسات أنّه لا توجد دولة مكروهة اليوم في العالم كأميركا. فلم يعد الغرب موثوقاً بما يكفي حتّى من الأنظمة، بل وحتّى من حلفائه التاريخيين.

 

4-تحوّل نوعي في مسار القوّة وتوزّعها

شهد مسار القوّة تحوّلاً كبيراً وأنتج معطى مباشراً وبعيد الأثر. عرّف الغرب القوّة بأنّها محرك التاريخ، فالتاريخ تصنعه القوة وليس الحق ولا الشهادة للحق. ونسج نظريته على هذا المبدأ، حتّى إذا ما بدأ الواقع يختلّ وتنزاح القوة وتتوزّع مع صعود قوى عالمية تهدّد حيازته لها واحتكاره بدأ ينتابه القلق، ويتحرّك بانفعال، ولمّا يصل بعد إلى حقيقة «وهم القوة» وأنّ القوة ليس بالضرورة أن تتحوّل إلى قدرة فضلاً عن أن تصبح حقاً أو حقيقة. لذلك أمكن القول إنّ الفلسفة أو الفكرة التي أقام عليها الغرب علاقاته ونظرته وصلاته بالآخر أصبحت على المحكّ، والأرجح أنّها تهاوت كما تثبت الوقائع العالمية. فالنظام الذي قام على واقع التلاقي بين ثنويتي «الليبرالية–الديموقراطية» / «القوّة-التوازن»، وواقع التنافر بين «السلطة-المسؤولية» انكشف انكشافاً تاماً، ودخل في تحوّل قيمي ومعرفي ناهيك عن الاقتصادي والسياسي والعسكري وإن بنسب ودرجات متفاوتة.

5-الدولة ومستقبلها

زاد تحدي الاجتماع البشري والمجتمعات في عالم نهضت فيه الخصوصيات والانتماءات العابرة، من تحدّي قدرة الدولة على تثبيت الكينونة ومنع التلاشي وتوالد الصراعات. وبمقدار ما أضعفت العولمة فكرة الدولة وهدّدتها، فقد عزّزتها في مكان آخر ولو بكيفيات وأدوار جديدة يُفترض أن تميّزها. ما يدفع للبحث بعلمية وإبداع عن ماهية الدولة المطلوبة في عالمنا الجديد هذا وماهية السلطة المنشودة وخصائصها في هكذا عالم سيال تحولي.

6-تحدّي الشرعية والقانونية

ظهر جلياً أنّ مفهومَي الشرعية والقانونية ليسا متطابقين كما افترضت الدعوى، خصوصاً في منطقتنا، فالدولة العربية، ومنها لبنان، كثيراً ما تعبّر عن مؤسسات تمارس أعمالاً قانونية لكنّها لا تجيب عن أسئلة المشروعية التي لأجلها خُلقت المؤسسات. فعلى سبيل المثال، تطلب الدولة من مواطنيها الالتزام بالعقد دون مقابل ودون تأمين حماية أو عدالة اجتماعية أو فرص وظروف متساوية لبنيها، ما يعني أنّنا نحتاج إلى استعادة الشرعية والمطالبة بها في دولنا قبل القانونية، والشرعية لا تنفكّ تتعلّق بركيزتَي «الحقانية»، من جهة، أي حقانية القضية، وإعطاء فرصة المشاركة العادلة والشاملة للجميع في صناعة المستقبل، فشرعية الدولة يجب أن تُستمد من كونها ملك الشعب، ومشاركة الأخير في صناعة مستقبله واجبة وليست حقاً فحسب.

 

هل يُعقل أن تواجه شعوبنا عدوّها بأداة المؤسسات التي هي تدبير المستعمر ذاته؟ كل ذلك يسترعي مقاربة أشمل لمواجهة التحديات في مسار بناء استقلالنا ودولنا

7-تطور أسلوب هيمنة الغرب في العقود الأخيرة

تبدو هذه المسألة من أهمّ تحدّيات مجتمعاتنا قبل دولنا، فالفرد في «دولنا» يسهل عليه رؤية الهيمنة الظاهرة أو الخشنة التي تمارسها الدول الغربية، لكن يصعب عليه أن يرى أشكال الهيمنة الأخطر والأعمق أو الهيمنة الصامتة، فليس من السهل الكشف عن استلابهم القرار السياسي لدولنا ولا حجم التغلغل الثقافي والاقتصادي والسياسي والأمني، ولا سياسات الإرغام، ولا سيف العقوبات، ولا سياسة الإدارة من الخلف وعن بعد، ولا دور دبلوماسية الغرب في صناعة القرار السياسي لمؤسساتنا، ولا نغفل عن الدور الإعلامي الذي يحاول تشكيل الرأي العام وأجندة الشعوب وتعميق الشرخ والهواجس. وكيف أنّ لهذا الغرب طريقاً أو سبيلاً (axcess) إلى جميع مؤسسات الدولة وكل منها على حدة، وكيف تقوم سياسته على تفكيك الفضاء السياسي لدولنا بحيث يتجزأ القرار. أي إنّ الغرب الإنكلوسكسوني يعمل لأن يحوّل الدول إلى كيانات فاقدة للروح ومسرح تشظّ يصعب التئامه، ما يغشّي عملية الديموقراطية ويجوّفها فتصبح شكلاً بلا مضمون. لذلك، فإنّ منهج التحرر الفعلي -كما سنبّين- يفترض أن يشقّ طريقه من المشروعية من خلال مرتكزيْها، وليس من القانونية والمؤسسات إلا بقدر.
ad

بالخلاصة، لا بدّ من أخذ هذه التغيرات المنشئِة والعميقة في حسباننا عندما نقارب لبنان والمستقبل والكينونة. ماذا نستفيد ممّا تقدّم؟ إنّ ما تقدّم يفتح أمامنا للاستنتاجات التالية:

1- لم يعد الغرب قادراً على تقديم قيمة عليا ومعنى ملهم للآخرين: لم تعد واضحة بشكل كافٍ ماهية الميزة التي سيقدّمها الغرب وأميركا للعالم اليوم. قد يقول قائل: التقانة والعلم. لكنّ هاتين القيمتين لم تعودا حكراً على الغرب، إنّهما تدفقان اليوم من الشرق الأقصى والمتوسط أيضاً. فالقوى الصاعدة باتت تحجز اليوم موقعاً مؤثراً في العالم ليس على الصعيد التقني والعلمي، ليس هذا فحسب، بل بعضها لديه الأهّم؛ لديه أفكار وقيم يمكن أن يقدمها للإنسانية على صعيد النظم المعرفية. إنّ حاجة البشر اليوم تتجاوز التقانة رغم أهمية الأخيرة. اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، البشرية محتاجة إلى المعنى والفكرة في آتون الضياع. إنّ من أعطى للغرب موقعه مطلع القرن الماضي هو نجاحه ولو النسبي بتقديم رؤى في قبالة الآخرين. لكن مع غياب ذلك لن تكون حاجة العالم إلى أميركا والغرب أكثر من مصالح وتبادل منافع عملية، لن يكون هناك سعي ليكون الغرب حاضراً فينا.

2- لم يعد الغرب قادراً على بناء علاقات أخلاقية تتّسم بالاستقرار وبناء الثقة مع الآخر: ومعادلة رابح-رابح لم تعد جزءاً من قاموسه. فلن يستعجل العاقل التقليد ولا اللحاق بركب من يعاكس حركة التاريخ، فلو أنّ الغرب، بما امتلكه من عناصر قوّة وإمكانات مادية غير مسبوقة، لو أنّ أطروحته كانت منسجمة مع حركة التاريخ وانسيابيته التلقائية لما واجه كل هذا الامتعاض والنقد والمقاومة العالمية له ولخطابه. وإذا كان هذا هو حاله في ذروة أُحاديته وقوته، فعلى أي حال وهيئة سيكون مع بزوغ العالم الجديد؟
3- إنّ العقد الاجتماعي الذي قامت عليه الدولة القومية ومثّلته آراء روسو (لا يؤخذ به في الغرب) وهوبز وهيغل، ولوك الذين تبنّوه دون غيره بقوّة، إنّ هذا المفهوم للعقد الاجتماعي الذي تبنّاه الغرب وانتقل إلى بلادنا مع انتصار الحلفاء في الحربين العالميتين الأولى والثانية يفتقر لمقوّمات النجاح في بلادنا. إنّ عناصر العقد وطرفيه ليست واضحة بما يكفي في بلادنا بل وفي الغرب نفسه، ناهيك عن الفضاء القيمي الذي تغيّر في مجتمعاتنا كما في الغرب. فالبيئة القيمية أو الفضاء الذي أنتِج فيه عقد لوك لا يشبه فضاءنا القيمي البتّة، وإنّ سلطة الاقتصاد التي اخترقت المجال السياسي ونخرته تجعل إلى حد كبير هذا العقد مبرماً بين الاقتصاديين وفعلهم الجزئي الغايات مع طرف آخر يدّعي أنّه الشعب، والحقيقة أنّ الطرف الآخر مغيّب. هل هو الشعب أم بعضه أم المستفيدون أم…، النظرية قضت أن يكون العقد بين السياسيين والشعب وليس بين الاقتصاديين والشعب، وشتّان بين رجل الاقتصاد والسياسة في الأوطان والدول. والنظرية قضت أن تكون السيادة مسألة حاسمة في بيئة كانت المجتمعات فيها مدركة لتمايزها وتمايز هوياتها بينما الأمر مختلف في منطقتنا، والنظرية قضت بضرورة رفض الفكرة الدينية باعتبارها سبب المشكلة، وهو ما يعاكس واقعنا الذي نرى فيه الدين أحد أبرز مصادر قوّتنا والقادر على إخراجنا إلى الضوء، ناهيك أنّ ما يسمّى بالسلطة كأحد طرفي العقد هي موروثة ولم نشهد عقداً فعلياً بمعالم واضحة كما هو الحال في لبنان – وجدت السلطة من قبل الوصي/المنتدِب قبل بحث العقد الاجتماعي والسلطة هي التي وضعت بنوده ومحتواه.

4- التحدّي الذي تواجهه فكرة الدولة، كصيغة وسلطة، خصوصاً مع ازدياد الوعي المجتمعي، يفترض الحاجة إلى حكم يوجّه ويرعى ويستوعب ويتيح ويعبّر عن الإرادات ويتكيّف ويتفاعل مع الخارج فيؤثر فيه ليس بأقلّ ممّا يتأثّر. لن يعود هناك مكان بعد اليوم لليبرالية غير المسؤولة، كما لم يعد هناك مستقبل لديكتاتوريات. إنّ الزمن زمن الشعوب واستعادتها المبادرة والحضور، إنّه زمن البحث في ما يشبهنا وينسجم مع البيئة والقيم والخصائص وليس زمن التقليد والانبهار، لا بأس أن يُؤخذ التحديث لكن لا يصحّ أن تُؤخذ الحداثة.
5- إنّ تداخل الانتماءات والهويات يفرض التفكير بشمول، فالاستقرار في منطقتنا رهن باستقرار الجميع، المشكلة سرعان ما تفيض والتحديات سرعان ما تتّسع، هذه خاصية منطقتنا. لذلك إنّ أي عملية بناء لا يمكن أن تتم أُحادياً أو على حساب مكوّنات المنطقة الأصيلة. ما يجعلنا نحتاج إلى ركيزة وثابت ننطلق منه ونبني عليه، وإلى صياغة جديدة لإطار العلاقة، ماذا ستكون، هل هي السيادة الوستفالية والمصلحة القومية البحتة؟ هل الموقف من العدّو؟ هل العروبة التقليدية؟ هل حقوق الإنسان؟ وهل يُفترض أن نبقي إدارتنا لعلاقاتنا على نموذج الجامعة أم ننتقل إلى مفاهيم أخرى من قبيل الاتحادات وغيرها؟

6- إنّ أيّ مقاربة لجماعة أو مجتمع يفترض أن تأخذ الجانب الصحيح من حركة التاريخ ولا تعيق سيره إلى التحرّر. في عالم يزداد تداخلاً وتشابكاً، فإنّه لن تخرج أي حالة صراعية من أن يكون لها جذر في نظام تقابل الحق والباطل. فكيف في منطقة كـ«الشرق الأوسط» حيث تدور حركة التاريخ على الصراع مع الكيان الصهيوني، أين هو الجانب الصحيح من التاريخ للجماعة اللبنانية؟
7- إنّ مسألة حماية كياناتنا واستقلال قرارنا لا يمكن أن تمرّ عبر المؤسسات التقليدية فقط، ولا نحتاج إلى كثير جهد لنتعرّف إلى ذلك، فلم يذكر التاريخ الحديث أنّ أيّاً من مؤسساتنا كانت قادرة بمفردها على القيام بذلك. فالبنية الدولاتية التي ورثناها لا تُتيح تحقيق ذلك، فلا نغفل أنّ المهيمن الذي أعطانا استقلالنا هو نفسه الذي زرع «إسرائيل»، وبالتزامن تقريباً، ورعى تمدّدها في جسد المنطقة لتؤدي دوراً لصالحه، وهو الذي أجهض ما وعد به الحلم العربي مع الشريف حسين -بغضّ النظر عن رأينا وتقييمنا للأخير- وهو الذي عمد إلى بناء علاقة مع كل حالة عربية على حدة ورفض مخاطبة العرب مجتمعين. نعم، لم تكن مؤسسات السلطة في كياناتنا الوليدة أو الواقعة تحت الرعاية الخارجية سوى انعكاس لحال السلطة الفاقدة للتقرير، أو أحياناً كثيرة لسلطة منحازة إلى راعيها وليس إلى شعبها. فهل يُعقل أن تواجه شعوبنا عدوّها بأداة المؤسسات التي هي تدبير المستعمر ذاته؟ كل ذلك يسترعي مقاربة أشمل لمواجهة التحديات في مسار بناء استقلالنا ودولنا، مقاربة ينبغي أن ترتكز على المجتمع كمجتمع بحيث يبادر إليها وفق منهج خاص -كما يحدث في حالة المقاومة في لبنان اليوم – فالعملية في بلادنا تحتاج أن تبدأ من البنية التحتية، أي من الشعب، لتقويم السلطة واستعادة المؤسسات، وهذا مسار يحتاج إلى نفس طويل وإلى تؤدة وحذر الإيقاع بين الأطراف، ويحتاج إلى تطمين وعقل منفتح خارج من إنيّاته ويحتاج إلى تخليق قضايا حقّة تحوز مشروعية فعلية -ليس بالضرورة قانونية كما أسلفنا- تنبري إليها جماعة أو شريحة وصولاً لتتحول إلى إرادة عامة في المجتمع.

شاهد أيضاً

شرفة المنزل حيث استشهد مختار بلدة الطيبة الحاج حسين منصور كان يتواجد عليها ٨ أشخاص آخرون ، حالت العناية الإلهية دون إنفجارها ما كان سيؤدي لوقوع مجزرة محققة . ما جرى أن القذيفة أصابت مباشرة الحاج حسين ما ادى لإستشهاده نتيجة قوة الإصطدام به .