المصدر : هآرتس
- بعد أن تلاشت في أرجاء العالم مشاعر التضامن مع إسرائيل، بدأت الانتقادات المتعلقة بنسب القتلى المدنيين الأبرياء في قطاع غزة تتصاعد، وكانت أبرز الجهات التي وجهت انتقادات من هذا النوع صحيفة “نيويورك تايمز”، والتي نشرت تحقيقاً شاملاً في 25 تشرين الثاني/نوفمبر، ادّعت فيه أن نسب قتل المدنيين في قطاع غزة أكبر وتجري بوتيرات أعلى كثيراً من مثيلاتها المثيرة للجدل في الغارات الأميركية على كل من العراق، وأفغانستان، وسورية. إلاّ إن الصحيفة لم تقدم أي دلائل مقارِنة صحيحة لتدعيم ادعاءاتها بأن الغارات على قطاع غزة كانت أشد.
- وبناء عليه، فإنني أقترح إجراء مقارنة داخلية بين حرب “السيوف الحديدية” والحملات الإسرائيلية الأُخرى، وكي يكون أساس المقارنة صحيحاً، سأقوم بتحليل نتائج الضحايا الناجمة عن بضع حملات هاجمت فيها إسرائيل قطاع غزة من الجو من دون تنفيذ هجوم برّي، وسأقوم بمقارنة النتائج بالهجمة الجوية خلال الأسابيع الثلاثة الأولى من هذه الحرب، ولهذا الغرض، سأستعرض نسبة الضحايا المدنيين (غير الضليعين في الأعمال القتالية) من مجمل القتلى. إن البحث في هذا المعطى وحده من شأنه أن يعكس التزام الجانب المهاجم مبدأ التمييز، وهو أحد المبادئ المهمة في القانون الدولي، ويفيد بأن التمييز بين مقاتلي العدو والمدنيين هو واجب ومسؤولية ملقاة على عاتق القوة المقاتلة، إلى جانب ضرورة امتناع هذه القوة من إيذاء المدنيين، وخصوصاً إذا كان متعمداً.
- ويبيح القانون [الدولي] الحالات التي يُسمح فيها بشن هجوم على الأهداف العسكرية الموجودة في بيئات مدنية، لكن يجب حينئذ أن يلتزم الهجوم مبدأ التناسبية، وهو يعني أن شرعية الهجوم تكون قائمة فقط حين تتفوق الفائدة المرجوة عسكرياً على الضرر اللاحق بالمدنيين (وهو ما يطلَق عليه في هذه الحالة اسم “أضرار جانبية”). وبالتالي، فإنه كلما كانت نسبة الأبرياء من مجمل القتلى أعلى، ثبت عدم التزام مبدأ التمييز، وهذا ما يعكس بدوره عدم التزام مبدأ التناسبية. في إمكاننا دراسة الأمر عبر المقارنة بين الغارات الجوية الإسرائيلية على قطاع غزة التي نُفذت من دون هجوم بري، وبين الهجمات الجوية الإسنادية للتحرك البري؛ ففي الحالة الثانية، هناك حاجة تلزم القوات الجوية بتوفير الحماية للقوات المهاجمة على الأرض. وبينما يكون الهجوم الجوي الإسنادي، بصورة عامة، هجوماً مخططاً له، فإن التحرك البري، بعكس ذلك، يتطلب الارتجال أحياناً، في هذه الحالة، يتمتع المهاجم من الجو بميزة واضحة تتيح له العمل برباطة جأش نسبية.
- سأقوم بإجراء مقارنة بين حرب “السيوف الحديدية” وأربع حملات واسعة النطاق استندت بالكامل إلى الهجوم من الجو؛ “عمود السحاب” (تشرين الثاني/نوفمبر 2012) التي استمرت نحو أسبوع، و”حارس الأسوار” (أيار/مايو 2021) التي استمرت نحو عشرة أيام، و”بزوغ الفجر” (آب/أغسطس 2022) التي استمرت ثلاثة أيام، و”درع وسهم” (أيار/مايو 2023) التي استمرت لخمسة أيام. لقد قمت بأخذ المعطيات المتعلقة بالحملات الأربع من التقارير التي أصدرها “مركز اللواء مئير عميت لمعلومات الاستخبارات والإرهاب”، إذ يقوم المركز بصورة حثيثة بتحليل معطيات القتلى وتشخيص انتماءاتهم التنظيمية، ويتوجب علينا هنا الإشارة إلى أن هذا المركز ينتسب إلى المجتمع الاستخباري الإسرائيلي، ولذلك، فإن الاستناد إلى معطياته سيقلص من حجم الاختلاف على دقته، على الرغم من أننا سنجد من يفيدون بوجود مشكلات في المعطيات وفجوات بينها وبين تقارير أُخرى. وتتطرق الأرقام التي أستند إليها هنا إلى تعداد القتلى الناجم عن الغارات الإسرائيلية، لا عن النيران العشوائية التي أطلقها الغزيون.
- جدول يوضح عدد الضحايا في قطاع غزة ابتداء بحرب 2012 إلى أقصى اليسار، وصولاً إلى العدوان الأخير على قطاع غزة إلى أقصى اليمين، وتشير النسب المئوية في الدوائر إلى نسبة الضحايا المدنيين من مجمل القتلى، والأعداد باللون الداكن تشير إلى العدد الكلي للضحايا، في حين تشير الأعداد باللون الغامق إلى عدد الضحايا المدنيين، بناء على معطيات مركز “مئير عميت”.
- يبين الجدول أن نسبة الضحايا غير الضليعين في القتال قد بلغت نحو 40% خلال الحملات الثلاث الأولى. وبما أن الانتقال من حملة “عمود السحاب” إلى الحملات التي لحقت بها شهد استخداماً أوسع من جانب الجيش الإسرائيلي للذخائر الدقيقة الإصابة، وتحسناً في المعلومات الاستخبارية، فإن النسبة المشابهة للضحايا المدنيين بين هذه الحملات تدفعنا إلى استنتاج أن إسرائيل قد زادت من جرأتها في العمل في المناطق المدينية المكتظة (كالإغارة على الأبراج السكنية خلال حملة “حارس الأسوار”، والتي لم تُشهَد في حملة “عمود السحاب” على سبيل المثال). ولقد تُرجمت دقة الإصابة هذه عبر الارتفاع المشهود في الجرأة على العمل في المناطق المدينية، لا في خفض الضحايا المدنيين، بيد أن الحملة الرابعة (“درع وسهم”) قد شهدت انعطافة خفيفة، إذ انخفض عدد القتلى المدنيين فيها إلى نحو الثلث، وذلك على الرغم من أن الهجمة الافتتاحية في هذه الهجمة التي تم توجيهها إلى عناصر حركة الجهاد الإسلامي قد أسفرت عن مقتل عشرة من المدنيين. وقد تطرّق رئيس هيئة الأركان، هرتسي هليفي، إلى الأمر في مؤتمر هرتسليا، في أيار/مايو 2023، بتوضيح يُعد من التوضيحات الأشمل والأكثر احتواء لتفاصيل يقدمها رئيس هيئة أركان إسرائيلي لمسألة الأضرار اللاحقة بالأبرياء، وذلك بقوله: “إن نسبة القتلى بين الضليعين في القتال مقارنة بغير الضليعين فيه، خلال هذه الحملة، هي نسبة جيدة إذا ما أخذنا في اعتبارنا أن القتال قد دار في منطقة شديدة الاكتظاظ.” وقد عزى هليفي ذلك إلى التخطيط الدقيق والتحسن في القدرات الاستخبارية، بيد أن هذا الوعي الذي أظهره رئيس هيئة الأركان تجاه مسألة الضحايا المدنيين سيحيلنا، لاحقاً، إلى ما يحدث الآن في حرب “السيوف الحديدية”.
- وقد بدأت الضربة الجوية خلال حرب “السيوف الحديدية” مباشرة بعد “مجزرة” 7 تشرين الأول/أكتوبر، وفي 27 تشرين الأول/أكتوبر بدأت العملية البرية، وابتداء من هذه المرحلة، بدأ سلاح الجو يؤدي دوراً إسنادياً للهجوم البري.
- ومن أجل تحليل البيانات المجمّعة في الحرب، وصولاً إلى تاريخ بدء العمليات البرية، سأستند إلى بيانات وزارة الصحة في قطاع غزة في الفترة الواقعة بين 7 و26 تشرين الأول/أكتوبر. ويجدر بنا أن نذكر أن وزارة الصحة هذه تتبع لحركة “حماس”، لذا، فإن موثوقيتها موضع شك، لكنها بادرت إلى إصدار تقرير يحوي أسماء القتلى، وأعمارهم، وجنسهم، وأرقام هوياتهم، وذلك رداً على ادعاء الرئيس بايدن بعدم تصديقه لبيانات القتلى الصادرة عنها بتاريخ 27 تشرين الثاني/نوفمبر، ولم يتم دحض هذا التقرير حتى الآن. وعلاوة على ما تقدم، فقد أشارت جهات دولية فعلاً إلى مستوى الدقة الذي التزمته الوزارة في السابق، بل أيضاً أشار المستشرق، الدكتور ميخائيل ميلشتاين، والذي كان يعمل في السابق مسؤولاً لقسم الساحة الفلسطينية في شعبة الاستخبارات العسكرية، إلى أن “حركة ’حماس‘ منظمة تستند إلى الأرقام وتتحرى الدقة”، وذلك في معرض تعليقه على قائمة أُخرى صادرة عن الوزارة. يمكن أن يتم تعديل هذه المعطيات مستقبلاً بعد إجراء تحقيقات من جانب هيئات أُخرى، لكن هذه المعطيات الأولية كافية لنستقي منها صورة أولية عن الوضع، بما يؤدي إلى استقاء استنتاجات عملية.
- وتفيد معطيات وزارة الصحة الفلسطينية بأنه قُتل خلال هذه الفترة 6747 شخصاً، إلى جانب عشرات لم يتم التعرف إلى هويتهم حتى ذلك الحين، ولم تقم وزارة الصحة في قطاع غزة، كعادتها، بالتمييز بين المقاتلين والمدنيين. ولغرض التحليل، سأقوم بإدخال ثلاث فئات وازنة يمكننا تضمينها في فئة “غير الضليعين في القتال”، وهي: القاصرون الذين تقل أعمارهم عن 17 عاماً، والرجال الذين تفوق أعمارهم 60 عاماً، والنساء. وسيكون هناك من يدّعون أن “حماس” تقوم أيضاً بتجنيد القاصرين، لكن من المعقول افتراض أن عدد القتلى القاصرين المنتسبين إلى حركة “حماس” (حتى بالاستناد إلى المعطيات السابقة) يمكن أن يكون وازناً، بصورة جيدة، في مواجهة نسبة القتلى البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و59 عاماً من فئة غير الضليعين في القتال، والذين لا يمكننا أن نشملهم في هذه الفئة بسبب النقص في المعلومات. وتظهر هذه الحسابات أن الغارات الجوية قد أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 4594 رجلاً وامرأة يمكننا تعريفهم بوصفهم غير ضليعين، من مجموع 6747، أي ما يعادل 68%. ومن أجل الحيطة الحسابية، سنفترض كما يدعي البروفيسور كوبي ميخائيل من معهد دراسات الأمن القومي، أن نحو 10% من إطلاق النار العشوائي الذي نفذه المقاتلون الغزيون كان فاشلاً، أي تسبب بإحداث إصابات في أواسط المواطنين الغزيين، على غرار ما حدث في المستشفى الأهلي. فإذا قمنا بطرح عدد القتلى غير الضليعين، بناء على هذه النقطة، فإن نسبة الضحايا المدنيين الذين سقطوا في الغارات الإسرائيلية تنخفض إلى 61%.
- والنسبة هنا أعلى كثيراً من 33% و42% اللتين تم تسجيلها في الهجمات. وإذا ما نظرنا إلى الأمر من زاوية دولية مقارنة، فإن هذا المعطى يُعد مرتفعاً نظراً إلى أن عدد ضحايا الحروب الحديثة، حتى سنوات التسعينيات، كان يبلغ نحو نصف الضحايا. وقد انطوت أيضاً الحروب الدولية المقارنة هنا على مكون مهم يتمثل في الحرب البرية، لا الغارات الجوية الدقيقة الإصابة نسبياً. وعلى ضوء هذه النسبة المرتفعة من الضحايا غير الضليعين في القتال في الحرب الراهنة، يمكننا أن نشك في أنه تم خرق مبدأ التمييز، كما يمكننا أيضاً ادعاء أن مبدأ التناسبية تم تفسيره بمرونة شديدة. وهكذا، فقد انقلبت الموازين بشأن معطى “الأضرار الجانبية”، لأن أغلبية المتضررين هم من المدنيين، وهذا ما يشير إلى اعتماد مبدأ “الفائدة العرضية” المتمثلة في نسبة القتلى المنخفضة من المقاتلين.
- ولا يتمثل مردّ هذه الفجوة في العدد الكبير نسبياً من الغارات، فنظراً إلى أن الجيش كان يلتزم المبادئ نفسها التي وجهته في الماضي، وخصوصاً في تطبيقه المحسَن لهذه المبادئ خلال حملة “درع وسهم”، فإن منسوب الضحايا المدنيين كان من المفترض أن يكون أقل كثيراً، وبالتالي يصح لنا أن نقترح تفسيرات أُخرى؛ الأول هو أن كثافة الغارات جاءت على حساب التخطيط الدقيق الذي تباهى به رئيس هيئة الأركان. وهناك تفسيرات أُخرى أقل براءة، وهي متوفرة في تحقيق أجراه يوفال أبراهام لموقع “سيحاة مكوميت” في 30 تشرين الثاني/نوفمبر، وقد استند إلى شهادات خبراء عسكريين، ويُظهر أن الجيش قام بخفض نسبة الحذر (المحدود أصلاً) الذي ميزه في السابق. فعلى سبيل المثال، قام الجيش بمهاجمة “أهداف رمزية كبرى” على غرار الأبراج السكنية العالية أو المباني الإدارية، مع المخاطرة بالإضرار بالمدنيين الذين كانوا في تلك المباني على نطاق واسع. وهذا ما حدث أيضاً في مجال زيادة الضربات تجاه المنازل الخاصة التي كانت هناك شكوك في وجود “ناشطين ’إرهابيين‘” فيها. ولقد تساهل الجيش الإسرائيلي، بصورة كبيرة، في المعايير التي تبيح له إيذاء غير الضليعين في القتال، وبحسب تصريح الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي، في 10 تشرين الأول/أكتوبر، فإن “تركيز [الجيش الإسرائيلي] في هذه المرحلة هو على التسبب بالأضرار، لا على توخي الدقة.”
- وإلى جانب ذلك، فقد تم [خلال العدوان الأخير] تفسير قواعد “التناسبية” بصورة أكثر مرونة، إذ جرى تخفيض مستوى الحذر من الإضرار بالأبرياء. إن استخدام الذكاء الاصطناعي من أجل رسم أهداف بوتيرات أسرع قد قلل بصورة أكبر من مستوى الحذر الذي ميز الجيش الإسرائيلي في الماضي، بسبب اعتماده، آنذاك، على اعتبارات البشر الذين يقومون بترسيم هذه الأهداف. وبالاستناد إلى هذه التفسيرات، يمكننا أن نستنتج أن نمط العمل هذا مقصود، ولربما كان هذا ما قصده وزير الدفاع، يوآف غالانت، في معرض تصريحه خلال أيام الحرب الأولى: “لقد قمت بإزالة جميع الكوابح؛ علينا أن نقتل كل من يحاربنا، وسنستخدم جميع الوسائل.” من حيث المبدأ، إذا ما نظرنا إلى العلاقة بين أساليب القتال وأعداد القتلى، فإن هذه الوسائل تدعم بصورة إضافية استنتاجنا أن نسب القتلى في الغارات الجوية قد كانت أعلى من المعتاد.
- وعلاوة على ما تقدم، سأذكّر بأن الهجوم من الجو يهدف إلى خفض المخاطر المحيقة بالقوات البرية حينما يبدأ التحرك البري، إذ تهدف الغارات إلى ضرب البنى التحتية العسكرية أو دفع السكان المدنيين إلى ترك الموقع، وهذا ما يتيح “تطهير” ميدان القتال. وبما أنه من الواضح لدوائر صنع القرار أن المجتمع [الإسرائيلي] لن يقبل استمرار المخاطرة بالقوات على مدار فترة طويلة، وهي مخاطرة تظهر واضحة في عدد قتلى الجيش الإسرائيلي، فيمكننا أن نفهم الدوافع الكامنة وراء شن الغارات المكثفة والفتاكة من الجو.
- إلاّ إن الاستنتاج العام يفيد بأن عمليات القتل الواسعة النطاق للمدنيين، إلى جانب كونها بلا فائدة للأمن الإسرائيلي، فهي تحتوي في داخلها على بذور تعميق زعزعة هذا الأمن؛ فالغزيون الذين سينهضون من تحت أنقاض منازلهم وجثامين أفراد أسرهم سيسعون لثأر لن تتمكن من مواجهته أي تسويات أمنية. وعلينا أن نتذكر أن عدد القتلى قد تضاعف منذ بدء الهجوم البري. لكن في ظل غياب أي إصغاء من جانب القيادة السياسية الإسرائيلية في المستقبل، فمن الصعب علينا أن نتوقع أن تتم مواءمة الإجراءات الحربية بحيث تشمل هذه الخشية.
- ويقول الاستنتاج الأكثر واقعية أنه إذا كان الجيش راغباً في الحد من قتل المدنيين في قطاع غزة، وخصوصاً في مواجهة الضغوط الدولية، وضمنها الضغوط الأميركية، فإن عليه فعلاً أن يستخلص استنتاجات حادة فيما يتعلق بسياسة الضرب من الجو قبل أن يتحول الأمر إلى تحقيق أعمق بعد الحرب في ملابسات قتل المدنيين، فتحقيق كهذا سيكون مطلوباً على ضوء افتراض أن تحقيقاً دولياً سيُجرى على غرار التحقيق الذي عقب حملة “رصاص مصبوب” و”الجرف الصامد”. إن من عارضوا الانقلاب القضائي، خوفاً من أن إحداث تغيير في النظام سيؤدي إلى اتباع سياسات إطلاق نار غير حذرة تعرض الجيش لمخاطر المقاضاة الدولية، يتوجب عليهم منذ الآن رفع صوت انتقادهم تجاه طبيعة التعليمات العسكرية المستقاة من النتيجة التي استعرضناها هنا.