اعتمدُ مصطلح «البطة العرجاء» لوصف حال الإدارة الأميركية في الأشهر الأخيرة لكل ولاية رئاسية أو السنة الأخيرة منها. لكّن الناظر المتمعن الى واقع أميركا اليوم والمستشرف لمستقبلها يلمس أنّ الدولة الأميركية دخل زمن البطة العرجاء.
البعض تنبأ به، كثر خافوا حتى الإعتراف في قرارة أنفسهم به. السطوة النفسية لأميركا كانت كبيرة حتى الأمس القريب. إمكانية الحديث في ذلك كان يحتاج الى شجاعة وجرأة وقبل ذلك استقلالية نفسية وعلمية وكسر للقيد الأكاديمي المهيمن. كان برنارد شو يقول «ذهبت من التعلم الى المدرسة باكراً»
النزاع الفعلي على الهوية وعلى دور أميركا وحدوده صار مرئياً للعالم كلّه ويتجاذب المجتمع ويتستقطبه الى حدود حرب صامتة. الشعوب أو الشعب الأميركي ليس مدركاً للحظة التي تمّر بها دولته والعالم المتغّير من حولها، الفجوة بين الواقع العالمي وإدراكاته واسعة وتتسع، الثقة بالمؤسسات عند غالبية الشعب (أو الشعوب الأميركية) مخيفة بحسب الإستطلاعات كبيرة ولا يمكن جسرها بالوسائل، الدولة فكرة قبل أي شيء.
«العقل» مهدّد، صار مقفلاً ومغلقاً حتّى بينما يبدو حراً، استراتيجية الهجوم على العقل التي اعتمدتها الامبرطورية والحداثة الغربية أتمت العقل وقولبته ففقد إبداعه خارج عالم التقنيات والأدوات والوسائل. أمّا أزمة نموذج القيادة السياسية والاستراتيجية فهي أخطر، السيستيم بات يعوق وصول شخصيات مفكرة ناقدة وموضوعية، المسألة أصبحت ايديولوجية بامتياز شعبوية أو ديموقراطية، كلتاهما يحملان افتراضات مسبقة حول الجماعات والمجتمع والإنسان. ولأنّ الولايات المتّحدة دولة كبيرة وعظمى ومترامية المصالح والخطاب الى حد التناقض فكان نظامها السياسي أو الدستور أحد ابداعاتها التاريخية ما جعل الأوروبين الكبار كألكسي دي توكفيل يعجب به ويفّكر في تبّنيه في القارة الأوربية، مصاغ بطريقة بالغة الدقّة والحساسية وشديدة التعقيد، هو عمل على معالجة عدم توافر أمة وفائض ثقافة استقطاب بين المكونات وعقد «تجاري» بين جهتين منذ التأسيس (رجال الرغبة بالمؤسسة ورجال أحلام التجارة والإقتصاد بلا حدود) ويراعي مختلف معايير الفدرالية الجغرافية والعرقية والقومية والدينية والمذهبية وهلم جراً. أيّما تعّثر سرعان ما يظهر اختلالات حادة ويبّرز التناقضات، المجتمع لا توجد فيها كوابح ولا «قف وتأمل»، فقط فيه «افعل» كما الثقافة البروتستانتية، لذلك لا تستطيع المؤسسة تغطية المشكلات الإجتماعية ولا تجاوزها!!.
لم تعالج الثقافة والقيم مشكلات الأمة بل القانون وانسجام العقل السياسي أساس معالجة المشكلات طوال التاريخ منذ جورج واشنطن. لكن الضامن اليوم لم يعد قائماً بينما المشكلات البنيوية والعالمية تفاقمت بشدّة كيفاً وكماً. اليوم الخلاف على الدستور وعلى المفاهيم. أولى أولويات ترامب لو وصل ستكون تغيير في الدولة العميقة قبل اي شيء آخر، وأولى أولويات الديموقراطيين التخّلص من الإرهابيين الداخليين أي ترامب وجماعاته والشعبويين. الرهان على القضاء في الامبراطوريات ـ الدول في غير محّله. القضاء ميزة أميركا لأسباب معلومة عند السياسيين، يفترض انّه سلطة مستقلة في الديموقراطيات الحقيقية. لكن المستقرة، يحتاج الى الدولة الضامنة لحماية القوانين وتحصينها وتطبيقها وقبل ذلك القبول بتفسير موّحد لها والقبول به. لأوّل مرّة القضاء صار عرضة للاهتزاز، لم يعد مقدوراً محاكمة أي من الطرفين وقع القضاء في فالق الإنقسام، لا يستطيع أن يقّرر أموراً لم يتوّقع الدستور أن تحدث، ترامب أو هاريس يمّثل كل منهما نصف الشعب وبشراسة وحدّة. القضاء يعمل في دولة مستقرة تؤمن السير بالأصول المتبّعة لكن في ظل الإنقسام السياسي الحاد لن يستطيع القضاء أن يحكم، فالتفسير لأي شيء يصبح وجهة نظر – شبيه ما يحدث عندنا في لبنان – القضاء على رغم من أهميته وضرورة استقلاله لكن في نهاية المطاف هو بنية في كينونة اجتماعية سياسية هي الدولة، لا يعمل بتزعزع قيمها وإدراكاتها. المؤسسات السياسية تبقى هي الأصل، إذا وقع الصدع في المجتمع فالمؤسسة السياسية التي تُعنى بتوزيع القيم ورأب الصدع وتقوية التلاحم هي المسؤولة، هي صاحبة الخطاب وليس الحكم فحسب، هي ليست بعرض السياسة مهما أعطيت من استقلال وصلاحية ومهما استغرقنا في تبّني مونتسكيو ومنظوره الى فصل السلطات، إنّ الحقيقة التي لا يمكن التنّكر لها هي أنّ المجتمع يبقى في حاجة الى جهة وسلطة أمْ خصوصاً لحظة الإنقسام! فما هي المرجعية يا ترى!! لم تهتد الولايات المتّحدة لها ولن تبلغ ذلك!!
أميركا الدولة دخلت اليوم وغداً زمن الترّدد في اتخاذ القرار أزمة صناعته والى غير رجعة، ما بعد الانتخابات الرئاسية لن يكون مختلفاً كثيراً عمّا نراه اليوم، السمة العامة لسياستها لا سيمّا الخارجية ستكون الإرباك والتخّبط واختلاط الأولويات والفجوة بين الرغبة والقدرة، بين الجمهورية والديموقراطية، بين الجمهورية والامبراطورية!! هذا ما يفهمه العالم كلّه لا سيّما خصومها ويتحّينونه. يعرفون أنّ مجتمعها غير حاضر لخوض الحروب ولن ينوجد إجماع على حرب تخوضهاـ سيقتصر فعلها على دعم مشروط أو لا مشروط من الخلف. ستبقى الأولى في خوض صنوف النزاعات من بعد ومن الخلف بينما غيرها سيكون سيّد ميدان ومالك ثقافة التواصل ومخاطبة المجتمعات خصوصا بعد محطة الفرز التي أنتجها «طوفان الأقصى». أميركا مربكة والغرب من خلفها، عندهم تنفرط العائلة – يساء الى المقدس – ينبذ التنّوع – تنتهي الحرية على أسوار غزّة بينما في غالب الشرق تحمى العائلة، يرفض الإضرار بالتنوع ويحمى المقدّس والحرية ستنطلق من نصر غزّة. نكاد نقول إنّ بعض الشرق يكفيه الإصلاح، غالب الغرب يحتاج الى إعادة بناء. وعام 2025 عام النظر في أميركا وليس أليها.