استاذ في الجامعة اللبنانية
اللجوء الى صندق النقد الدولي هو هدف ممنهج تنبأت به الحكومة السابقة وتبنتها الحكومة العتيدة وسوقت بارقام مالية مغلوطة التي صار الى تدقيقها عبر شركة تدقيق غير موثوق بها. وصور الوضع على انه انجاز عظيم رغم أن العديد من البلدان التي لجأت الى صندوق النقد الدولي والتي كان لديها فجوات تمويلية لم تأت نتائج توصيات الصندوق ايجابيه.
المشكلة في لبنان مشخّصة واساسها الطائفية التي تحمي الفساد والتي تتمحور في النظرية الاقتصادية الراسمالية الطائفية التوافقية الريعية التي نعيش تراكماتها منذ عشرات السنين، والحل يكمن في اعادة الثقة في النظام السياسي والمصرفي والاقتصادي، وبدون التخلص من هذه القاعدة التي يعتمد عليها النظام السياسي والاقتصادي التوافقي والانتفاعي لا يمكن الانطلاق في طريق الحل، وبعدها لا نحتاج فعليا لاي صندوق لوضع الوصايات السياسية التي قد يكون عليها نقاط استفهام على صعيد الاستقلالية السيادية.
إن سياسات اعادة الهيكلة والتثبيت التي يروج لها صندوق النقد الدولي قد تعرّضت لنقد شديد من خلال النتائج التي وصلت لها البلدان التي اعتمدتها حيث ارتفعت الديون الخارجية في البلدان الخاضعة لورشة الصندوق، بالقياس للناتج القومي من 82% ما بين السنوات 1980 ــــ 1985، إلى 154% ما بين 1991ــــ 1995، على عكس البلدان التي لم تخضع له وكانت الزيادة طفيفة.
مما لا شك فيه الى ان سياسات صندوق النقد وفي كثير من الحالات كانت وسيلة للتدخل وللتاثير في السياسات الداخلية والخارجية للبلدان النامية وهي من حيث المبدأ سياسات انكماشية بطبيعتها، بسبب تخفيض الإنفاق العام الذي يؤدي إلى وقف النمو الاقتصادي، أو على الأقل تراجع معدّله. كذلك، فإنها تؤدي إلى تقلّص فرص العمل وزيادة البطالة. وهذا ما سوف يقع عبؤه على الفئات الفقيرة، ما يفضي إلى توسيع دائرة الفقر والجوع وزيادة التفاوت في توزيع الدخل والثروة.
خطة صندوق النقد تقف في افضل الظروف عند مبلغ 9 مليارات دولار مقسمة على فترة خمس سنوات حيث يحق للبنان دعم بحدود 863 مليون دولار بما يوازي النسبة من اشتراكاته في الصندوق. وقد تم وضع بنود تتخطى الى حد كبير التي تطلبه انجاز توصيات مؤتمر سيدر التي يتميز بعدم التدخل السياسي الذي سيفرض ان يكون لصندوق النقد الحق في مراقبة العمليات للتضيق على المقاومة، ويكفي اعادة هيكلة الدين العام، واستعادة الاموال المهربة بالاضافة الى الامكانيات الاخرى المتاحة، بالاضافة الى عودة الثقة لكي يستفيد لبنان من تحاويل المغتربين والتي تتخطى باضعاف ما يقدمه صندوق النقد والمؤتمرات.
السؤال الاساسي هو في ما سيقدمه صندوق النقد الدولي، وهل يستطيع لبنان والشعب اللبناني تحمل تبعات التعليمات الدولية الدولية التي ستقابل هذه التقديمات خاصة وانه سيسلط صندوق النقد سيفا على مسار الدولة اللبنانية لناحية ترسيم الحدود النفطية والمقاومة. كما أن توفير الموارد المالية لخدمة الدين لن تنحصر في تخفيض الإنفاق العام، وسيتم التركيز على نفقات الدعم والنفقات الاجتماعية، وسيترافق تجميد زيادات الأجور بشكل لا يتناسب مع ارتفاع الأسعار، وسيتم وقف التشغيل في الحكومة والقطاع العام، وغيرها، مع بالطبع زيادة الواردات عبر زيادة الوعاء الضريبي الذي سيقع على كاهل المواطن، مع استحداث ضرائب جديدة، وفرض رسوم على الخدمات التي كانت تؤدى مجاناً، أو زيادة الرسوم على خدمات التعليم والصحة وخدمات الإدارة العامة، وزيادة تعرفة المرافق العامة كالمياه والطاقة، وتفعيل الجباية ومحاربة التهرّب الضريبي.
عندما يتدخل صندوق النقد ببرنامج إنقاذي يعتمد سلة من الإجراءات تبدأ غالباً من تحرير العملة أمام الدولار، ووفقا لشركة لازار فإن السعر العادل لليرة اللبنانية هو بحدود 2950 ليرة لبنانية للدولار، فيما صندوق النقد اوصى ب 3500 ليرة للدولار وقد تم تنفيذه دون اي تردد رغم الانعكاس السلبي على صعيد مستوى المعيشة والتضخم.
وسيوصي الصندوق بزيادة الضرائب، والتي سيكون ضررها على الاقتصاد أكثر من إيجابياتها، حيث ستنعكس زيادة الضريبة على القيمة المضافة من 11% الى 20%: بما يعادل على الاقل ما بين 6% الى 7% على اسعار السلع، وسينحسر الاقتصاد حيث سينخفض الاستهلاك مع انخفاض قيمة الهملة وستتراجع ايرادات الخزينة من 3 مليارات دولار الى 2.1 مليار دولار. كما أن إلغاء الضريبة على معظم السلع المعفاة سيؤدي الى زيادة معدلات الفقر المرتفعة اساسا، كما ان فرض ضريبة على المحروقات بقيمة 5 آلاف ل.ل. على الصفيحة بمعدل 20% بالنسبة إلى سعرها الحالي سيؤدي الى ارتفاع الاسعار ما بين 5 و 6%.
فمجمل ما سيفرضه صندوق النقد سيؤدي الى زيادة الأسعار بنسبة 100% عن سعرها المرتفع اساسا نتيجة ارتفاع اسعار صرف الدولار بالنسبة لليرة اللبنانية في السوق الموازية، مما يعني تراجع القدرة الشرائية على المواطنين بنسبة 50% على الاقل والذي وبدون انعكاسات جائحة كورونا سوف يؤدي إلى زيادة معدل الفقر والبطالة إلى أكثر من 60%، ما يتخطى 900 ألف عاطل من العمل بما فيهم العاطلين الحاليين عن العمل.
فهل سيتحمل لبنان والحكومة العتيدة الانعكاسات النتائج المحتملة في حال تطبيق اقتراحات صندوق النقد الدولي لناحية تفكك مؤسسات القطاع العام ومؤسسات التقديمات الاجتماعية والصحية والتربوية وغيرها، بما فيها الأجهزة الأمنية والعسكرية بسبب الجوع الذي سيطال الجميع، تعرض ممتلكات المتمتولين والذين سيمثلون اقل من 0.5% من الشعب اللبناني من قبل الجائعين، والذين سوف يجوعون بهدف اطعام عائلاتهم، مع احتمال معاناة فئات واسعة من المهمّشين والفقراء من المجاعة بشكل تدريجي مع امكانية زيادة عامل الفوضى على مختلف المستويات. فهل سيمكن الدولة من تحمل هذه التبعات ؟؟ بالاضافة الى امكانية خسارة موارد الدولة الحالية والمرتقبة خصوصاً بما يتعلق بتأجيل استثمار النفط والغاز إلى أمد غير منظور.
وبالتالي فإن توصيات صندوق النقد الدولي سيكون له انعكاسات سلبية اكبر مما يتحمله لبنان حتى وان جرى ابراز ذلك بانه نابع من لبنان، فستفاقم الازمة وستعمقها، وتوقف عجلة النمو الذي يتوقع لها في العام 2020 نسبة انكماش تتخطى 13.8%، وزيادة البطالة والتي ستتعمق اكثر مع تفشي جائحة كورونا، بالاضافة الى المخاطر الكبرى على اصول الدولة من املاك والتي بدأت المصارف بطرحه بالاضافة الى طرد 30% من موظفي القطاع العام، مما ينذر بانعكاسات سلبية على صعيد اجتماعي واقتصادي وعامل ثقة سيزيد من عوامل عدم الامان والهجرة. وكان الاجدر الاستعانة بالخبرات اللبنانية وغير المكلفة من اساتذة جامعين وقضاة وعسكريين متقاعدين التي يمكنها ان تساعد وتساهم في وضع حلول محلية بعيدا عن تدخلات صندوق النقد.
الثقة تكمن في منهج الحكومة والذي لم يأخذ لغايته الاجراءات الكافية على صعيد مالي ومصرفي، والتي تبشر باستشفاف بوادر الثقة، فالقرارات المالية إن على صعيد الصرف والاليات المعتمدة والضغوط الداخلية التي تسعى لتأزيم وضع الصرف، يشتف منها تواطئ يدفع نحو الانهيار الاجتماعي والمالي ليطل صندوق النقد كبطل منقذ.
إن خطة الانقاذ الحكومية التي تتغنى بها الحكومة الحالية هي خطة الحكومة السابقة مضافا اليها تعديلات فرضت من قبل صندوق النقد الدولي خاصة بما يتعلق بالانفاق العام واعادة الهيكلة وتثبيت سعر الصرف مع بند استجد حول هيكلة المصارف والذي لن يؤثر كثيرا على واقع الطلبات المفروضة من قبل الصندوق، فالخطة القديمة المستجدة التي سوقت لها الحكومة وقبلها المجلس النيابي هي على قياس صندوق النقد وبالتشاور معه، مع الاشارة الى اضافة بند في نهاية الخطة الحكومية الموضوعة، الى ان الحكومة مستعدة لتبني كل الخيارات التي يراها صندوق النقد الدولي مناسبة. مما يعني ان لبنان لن يكون له قدرة على ادخال تعديلات على شروط صندوق النقد حتى تلك التي لها تأثير سلبي على الواقع الاقتصادي والاجتماعي والامني في لبنان.
مع ملاحظة أن الشروط والتي قد يكون له تاثير سلبي من ناحية امنية قد تنعكس امنيا في تصرفات النازحين، دون اعتبار الاعباء التي تتكلفها الدولة اللبنانية لناحية البطالة واستهلاك البنية التحتية من كهربا ومياه وصرف صحي، والخدمات الاساسية من ضمنها التعليم والصحة الوطنية والتي كلفت تبعا للمؤسسات الدولية بحدود 25 مليار دولار وتبعا لتصريحات وزير الخارجية بحدود 30 مليار دولار منذ 2011 وهي اكبر من ان يتحمله لبنان، ولحل هذه الازمة يتطلب التواصل مع سوريا والتنسيق معها. والسؤال فيما اذا كان سيقبل صندوق النقد هذا التواصل، حيث كان بالاساس موضوع النازحين واللاجئين ورقة ضغط غربية على لبنان وعلى ماليته ووضعه السياسي في اطار صفقة القرن.
ومن الطبيعي طرح الخصخصة والتي ستربو في حضن النظام السياسي الذي كان المسبب لواقع الازمة، ودون تعديلات قانونية موضوعية ستعطي الخصخصة قدرة على تجديد السلطة حيث سيتم توزيع الشركات على اصحاب االقرار وبالاموال التي هربت الى الخارج، خاصة بغياب الكثير من قوانين الحماية من الاحتكار وتأمين المنافسة، مع ذكر ان أكثرية المؤسسات العامة في لبنان تعاني من خسائر، وعجز نتيجة لتضخيم البطالة، بها ويتم العمل على ابراز الخصخصة كخشبة خلاص، والتجربة تعيدنا الى خصخصة TMA والتي تم التخلي عنها مقابل دولار واحد، علي ان يتم دفع الالتزامات والتي حينها كانت بحدود 20 مليون دولار، وما حصل هو استملاك الاراضي بقيمة 40 مليون دولار ولم يتم دفع كامل الاستحقاقات لموردي الشركة.
إن تشغيل القطاع العام لقطاعات الهاتف، المياه، الكهرباء، المؤسسات المصرفية المختلطة، تلفزيون لبنان سابقاً، طيران الشرق الأوسط، شركة الريجي، كانت خاسرة ومكلفة لخزينة الدولة، فإذا كان القطاع الخاص يرفض شراء المؤسسات المُتعثّرة، فكيف سيتم التخلي عنها وباي اسعار ولمن؟، وهناك عدد من الحلول بديلة عن الخصخصة فمن الافضل تشغيل هذه القطاعات لتصبح مربحة، وهي ستومن واردات للدولة، ويمكن تلزيم تشغيل هذه القطاعات للقطاع الخاص بدل تحويل الملكية بشرط وجود رقابة فعلية وموضوعية عليها، وبما يتعلق بقطاع الكهرباء والذي اثقله النهب والسرقة والهدر، من الافضل تلزيمه بطريقة BOT، (بناء، تشغيل، وتحويل الملكية)، والتي ستخفض استنزاف المالية العامة وستعطي ارباح للدولة.
إن عدم المساس بالذهب كان من اهم القرارات المتخذة على صعيد مالي في لبنان، رغم ان المادية في اطار التدقيق للذهب ومكان تواجده غير محدد بعد ان اتخذ قرار بنقل جزء من الذهب خلال الحرب الى خارج لبنان، دون معرفة حجم الذهب الذي تم نقله وعن مكان النقل. إن عدم شفافية التقارير المالية الصادرة عن مصرف لبنان لا تسمح بالتعرف على مكان تواجد الذهب ولا على النسبة غير الموجودة.
تعودنا في لبنان عند طرح أي عملية تجارية وبنتجية عدم الثقة في كثير من اصحاب السلطة السؤال عن المستفيد من هذه العملية، كما في طرح بيع اصول وممتلكات الدولة، وفي حال التسييل نعود لنسأل فيما اذا سيكون هذا التسييل لصالح الشعب، أم للمحظين من الدائنين في الدين العام والذين سجلت لصالحهم فوائد مرتفعة وصلت في كثير من الاحوال الى معدل 40%.
نعتقد فعليا ان لبنان باستطاعته حل أزمته المالية والاقتصادية دون اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، المسألة تتعلق بالارادة الفعلية وبالتوجه السياسي اللبناني التي نرى ان له ميول راسمالية متوحشة.
والحل يكون بتحديد مكامن العجز والتي تتركز في عجز الموازنة والذي يتأثر بقيمة الفوائد المدفوعة على الدين وبعجز الكهرباء وبالهدر في قطاعات الخليوي والجمارك والتوظيف والاضافات على الرواتب العامة من لجان وحرس وسفر وتعويضات وتدابير عسكرية شاملة غير مقوننة، والمرافقات والسيارات، ومن جهة ثانية بميزان المدفوعات ويمكن بسهولة الطلب من دول صديقة ارسال مواد اولية ومحروقات الى لبنان ومقايضتها بسلع لبنانية او بتأجيل الدفع لعدة سنوات، او الطلب من المغتربين ارسال بضائع ودفع قيمة بضائعهم في حسابات لهم في لبنان بقيمة دولار متحرك يدفع لهم بعد سنتين او ثلاث، وهي تتخطى بكثير التبعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي سيحصل عليها صندوق النقد والذي لا تتمحور سياساته الا حول اعدة الهيكلة والتثبيت، ودون النظر الى المعاناة التي سيتحمل عبؤها الشعب اللبناني.
عامل عدم الثقة هو المسيطر لغايته، وتلك المناقشات مع صندوق النقد الدولي لن تكون صعبة مع لبنان، فقد اعطى لبنان اكثر مما طلبه صندوق النقد، والذي يرتبط بالقرارات الدولية الباحثة عن موطئ قدم لها في لبنان في اطار الصراع الاقليمي حول مصادر الطاقة وصفقة القرن، وبادخال صندوق النقد لن يكون الوضع في لبنان في السنوات الثلاث القادمة سوى الى الاسوء.