كتبت : هبة الله حكمت محمد
الرقي بالطفولة هو المعيار الذي ناشدت به اتفاقية حقوق الطفل بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام ١٩٨٩ متضمنة موادها التي نصت في محتواها على الاعتراف بحقوق الطفل و إعداده وفق مبادئ أعلنتها الأمم المتحدة مرارا حول الكرامة و التسامح و الحرية و المساواة و الإخاء و في مجملها هي مبادئ يسعى أي مجتمع لإكسابها لأفراده صغارا أو كبارا بعيدا عن التخبطات السياسية و العسكرية و الاقتصادية التي تمر بها دول المنطقة على وجه التحديد . و لكن ، و وفق ما تسمو إليه مواثيق حقوق الطفل وقعت مسؤوليات كبيرة على عاتق مطلقي تلك المواثيق ، تم النجاح في بعضها و الفشل في البعض الأكثر ، و هذا رهن بالشرعية التي أحيطت بها تلك الحقوق لدى حيز التنفيذ الفعلي بعيدا عن الشعارات و المناشدات و ما إلى ذلك من بعثرات هنا و هناك كانت شريكة في الانكماش الحقيقي للدور المبذول في اتمام حق الطفل في الحياة الكريمة .
في الحقيقة إن التطلعات الساعية في إنجاز ما يمكن إنجازه لدعم الطفولة في البلدان التي لا تكف الحرب فيها عن فرض نفسها باستمرار هي تطلعات فقيرة الحل لو مهما بلغ البذخ المادي فيها ، فالشتات الحاصل في مجتمعاتنا يضعها في مأزق كبير مع أفرادها في عمر الطفولة بشكل خاص ، و الحماية التي تتوق إليها أي أسرة عربية لأطفالها وسط كم الدمار و الخراب الحاصل نتيجة مبادرات دولية متتابعة في جعل المساحة العربية على فوهة بركان على الدوام .
الحرب على سورية حصار ناطق بكل اللغات ، لتصبح بذلك لغة طوارئ في طرف و لغة دوافع ورغبات في طرف آخر وبين اللغتين لغة ثالثة مبهمة التفسير والتطبيق تلك التي تنطق بها وسائل الاعلام باختلاف مقاصدها السياسية .. ليكون عنوانها العريض بنسبته العالية حول الطفل السوري كأداة ووسيلة للضخ الاعلامي المسيس و الشرس الذي وإن صدق … كذب ، ومع نهاية ٢٠١٠ كان هناك سيناريوهات مكتظة بالعامل الطفولي الفعال في تأجيج مجريات الأحداث ليتنافى بذلك أهم بنود الحماية الدولية للطفل و لتصبح الطفولة السورية على طاولة المساومات القاسية ، تمثلت بتواجد الأطفال في مخيمات اللاجئين و مناطق الاقتتال المسخرة لخدمة التصعيد المستمر كمعضلة خطيرة في أبعادها .
قرارات الحروب لا تأتي عبثا ، بالأخص تلك التي تتشارك بها قوى الموت القادم من الغرب و المقترنة بوجه العدالة و الحقوق و الإنسانية ، لتغزو بشعائرها هذه بلاد اللاإنسانية على حد تعبيرهم . لتأتي ممارساتهم بصبغة مليئة بالتعاطف مع طفل تعايش مع إعاقته الدائمة … بسبب إنسانيتهم القادمين بها إلينا!!
لقد استغل الطفل السوري على درجة كبيرة من الدهاء منذ بداية الأزمة السورية إلى اليوم ، فكان الوقود الذي أشعلت به مواقع التواصل الاجتماعي لاستقطاب الرأي العام الشعبي على وجه الخصوص لتكون أولى المفارقات و المغالطات التي اختصت بها المنظمات الدولية و المحلية العاملة في حقل حقوق الطفل الذي بالأساس قد حولته الأيادي المتسخة إلى رماد مهمش لا نفع منه ولا نفع له وسط غزارة دموية لا يمكن ضبطتها ولو بعد حين ، فالواقع يعكس سوء التفعيل لعمل المختصين بهذا المجال و الذي انعكس سلبا على الطفولة السورية التي تعاني داخل وخارج الحدود السورية بدءا من افراغ كامل لأبسط حقوقها في التعلم و اللعب و الأمان و انتهاء بالعيش في مخيمات لا تصلح لنوم أي نوع من الكائنات وفي أحضان متطرفة التفكير و التطلعات ، لتتصدر أخبار معاناتهم الصحف و الشاشات و التقارير الأممية و ليكونوا محط أنظار دائم لانتهاك الحق الأكبر لهم .. حريتهم .. بعد أن قيدتهم الحرب المفروضة ضمن قوقعة محكمة الاغلاق فباتوا بوصلة شحادة و عمالة و إجرام يتفوق على إجرام الكبار أحيانا كثيرة .
الإضرار الحقيقي لم يأت من كون الحرب حرب كباقي الحروب على مر التاريخ العربي المعاصر ، بل جاء على خلفية أهداف الحرب الراهنة و المفرزات الحياتية التي عانت منها مناطق الحصار و المناطق الأشد عنفا و هستيرية من حيث العنف الظاهر و العنف الباطن على حد سواء ، فثمة أعداد لا يمكن حصرها بسهولة من الأطفال الذين سجلوا كأرقام ضمن أرشيف الحرب و كل حسب تصنيفه بين ميت ومعاق و مشرد و فاقد لأبويه ، لكن أحدا لم و لن يستطيع الإحصاء الرقمي للأفكار الموحشة التي اعتلت بها أدمغة النسبة الأكبر من أطفال سورية ، ليأتي الجواب على لسان طفل سوري عاش سنوات طفولته في حصار الحرب على بلدته و ضمن جوقة من الدعم الداعشي … و عندما سئل عن اسم عاصمة بلده سورية كان جوابه … تركيا!!
المنظور القريب يعكس معاناة الطفل السوري نتيجة أزمات أشد قسوة من تلك التي تعاني منها أي شريحة عمرية أخرى ، و تأتي شدتها من فداحة عواقبها على المنظور البعيد . و ربما حصاد الأرواح اليومي للأطفال في المناطق الحرجة عسكريا هو في المستوى الموازي تماما للحصيلة المسجلة بحالات الاغتصاب و الاختطاف و بيع الأعضاء و ممارسة طقوس عمالة الأطفال على أعلى الدرجات ، فشوارع العاصمة السورية باتت مخدعا لسيل من الأطفال مسلوبي الأمان و الذين تم تجنيدهم لممارسة التسول و الترويج للجنس كأقل تقدير للفتيات دون سن الرشد .
إن النزاعات المترافقة مع نمو الطفل و المحيطة به في جميع الأماكن المتواجد بها داخل بيته ومدرسته و حييه و التي شاءت أن تجتمع جميعها في ذات الوقت أودت بمصيره كليا ، فهو غير قادر على الاستيعاب لكل ما يجري حوله من أحقاد و منغصات و أفكار شائكة عن الخير و الشر ، و هذا كفيل ليجعل منه فرد مكتئب و منكمش على نفسه يعاني ما يعانيه من خوف و من ردات فعل غير مفهومة ، فالكل معتد عليه بطريقة أو بأخرى و لتكون اغتصابات طفولته بالجملة .
و وسط هذا كله لا تزال الولادات مستمرة من أم بلغت للتو و أب لم يتجاوز سن الطفولة و لتنشئ أسر مكونة من أبوين طفلين و أطفال جدد يحملون هوية التعاسة و الخراب النفسي و الجسدي .
لم تعد سورية بحالة فتية كما كانت قبل الحرب ، الحرب التي طحنت الفئة العمرية الأكثر عطاء لبناء الحياة ، فمن لم يهاجر لقي حتفه على الجبهات ، ومن لم يستشهد على الجبهة استشهد على مقاعد الدراسة و في الشركات و المصانع التي طالتها القذائف و الاعتداءات ، و بدت الفجوة كبيرة في تدرج الهرم العمري الفاقد لأهم فئاته ، و لتأتي فئة الأطفال و تكون هي الأخرى في أسوأ حالاتها و في وضع لا يسمح لها بتخطي الصعوبات بشكل صحيح وصولا إلى المرحلة التي تصبح بها قادرة على البناء و العطاء لإعادة إعمار سورية ، ومن هنا تأتي الضرورة الحتمية للبحث المطول من قبل المؤسسات و من أولويات الاهتمام الوطني حول إعادة تأهيل الطفولة على أنها طفولة قبل أي شيء ولكن ليس على طريقة التطبيع التي أرادها كيان الصهاينة و سوقتها أممية الولايات المتحدة و شرعتها البلدان العربية ، فالعمل يجب أن يكون في سبيل إدراك عواقب تهميش الطفولة و استدراك ما يمكن معالجته ، المعالجة و ليس التخطي ، فالتجاوز و الانتقال إلى ما بعد الحرب لن يكون صحيا بوجود ذخيرة من الاضطرابات النفسية التي يحملها أطفالنا في عقولهم و نفوسهم جراء ما يعيشوه كل يوم لإعادة توازن الشخصية الطفولية المقبلة على المستقبل الذي لن يكون على قدر كبير من الجمال ، فالحرب طويلة حسب المعطيات التي لا تزال في دنو أكثر للأسف .
إن المبادرات المحلية و الدولية التي انتشرت خلال سنوات الحرب كثيرة العدد لكنها قليلة الإنجاز و هذا أيضا له أسبابه لسنا بصدد البحث فيها ، و إنما هو سبب إضافي لتولي الدولة السورية المسؤولية كاملة لمنح الطفل السوري الهوية السورية بكل مقوماتها الوطنية و المعيشية و النفسية و التعليمية و التربوية و الصحية دون الاستغناء عن إحداها ، فهو دون أي منها لن يغدو مستعدا للغد .
ما آل إليه السلوك الطفولي في المجتمع السوري و المجتمعات العربية الشبيهة في الظروف السياسية و العسكرية التي تغص بها المنطقة هو بالحقيقة سلوك مستفز مقولب الى درجة كبيرة بقالب يستبيح الأسرة السورية ضمن شروط تربوية مستعصية ليس بالإمكان تداركها بالوقت القريب ، وهنا تكمن المسؤولية المجتمعية الشمولية ، بالأخص بالتعامل مع الطفل السوري العائد إلى الداخل و الذي تم العمل جديا على اشاركه بالمأساة ليحمل اثارها في نفسه لسنوات طويلة ستساهم بالضرورة في إبتكار جيل مليء بالتخبطات .
الرؤية قاسية و تتفاقم خطورتها ، فجيل بأكمله يتساءل عن نفسه الضائعة نتيجة مخلفات الغائبين عن العقل و المتمردين على المنطق ، و التحايل على الموت بموت اكثر ألما يتجلى في بتر الطفولة و سحق رحمها على مرأى و مسمع أصحاب الشعائر أنفسهم . فنحن اليوم في مواجهة حقيقية لانتشال ما يمكن انتشاله من بقايا الطفل السوري المنهك .