عودة إلى نقاشات “قطاع غزة في اليوم التالي للحرب”: الرؤى الإسرائيلية لشكل “السلطة الجديدة”

 وليد حباس

 

تشكل هذه المقالة حقلة جديدة من سلسلة مقالات تناولنا فيها النقاشات الإسرائيلية حول الترتيبات السياسية لليوم التالي للحرب. مع الانتقال من سياسة “احتواء حماس من خلال ردعها” (2007-2023) إلى سياسة “تفكيك قدرات حماس السلطوية والقتالية” (أهداف الحرب الحالية)، تتوقع إسرائيل نشوء فراغ سلطوي في القطاع في اليوم التالي للحرب. أثار هذا الفراغ “المتوقع” نقاشات إسرائيلية حول شكل نظام الحكم المستقبلي الذي تفضله إسرائيل. ولا بد من التأكيد بأن النقاش الذي نستعرضه أدناه يعكس الرؤى الإسرائيلية بناء على ما هو أفضل لإسرائيل من الناحية النظرية، وليس بناء على مؤشرات عملية تشير إلى أرجحية تطبيقه من عدمها.

الأفكار الواردة أدناه هي قراءة في ما صدر عن مجموعة التفكير الإستراتيجي داخل معهد القدس للإستراتيجية والأمن، وهو معهد تفكير (Think Tank) يقدّم توصيات سياسية وأمنية لصناع القرار الإسرائيلي، ويعزز السياسات البراغماتية التي من شأنها الحفاظ على أمن إسرائيل ويرى أنها تؤدي على المدى الطويل إلى ترتيبات سياسية مستقرة. وهو معهد ذو توجهات يمينية تقوم على “أولوية الأمن” في إبرام الاتفاقيات السياسية مع الفلسطينيين.

حجم الدمار في قطاع غزة يحدد شكل نظام الحكم السياسي 

يتضمن جلّ النقاشات الإسرائيلية حول ترتيبات اليوم التالي للحرب وجوب بقاء قطاع غزة في مجال السيطرة الإسرائيلية، وبالتالي، يستثني الخيارات التي يمكن أن نصفها بأنها خارطة طريق لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، ويتموضع في المقابل حول أفضل الطرق التي يمكن لإسرائيل من خلالها الاستمرار بـ “إدارة السكان المحتلين”. استنادًا إلى هذا التوجه المهيمن داخل إسرائيل، فإن فريق الباحثين التابع لمعهد القدس للإستراتيجية والأمن (لاحقًا سيتم الإشارة إليهم بكلمة “الباحثين”) يرى أن خيارات إسرائيل في إدارة حياة سكان القطاع في اليوم التالي للحرب هي:

  1. وجود فراغ حكومي في إدارة حياة القطاع في أعقاب الإجهاز على قدرات حماس السلطوية وانسحاب سابق لأوانه للجيش الإسرائيلي.
  2. إعادة السلطة الفلسطينية وقوات الأمن التابعة لها والعاملة حاليًا فقط في الضفة الغربية إلى قطاع غزة. هذه الخيار الذي دعا إليه أيضا رئيس الإدارة الأميركية جو بايدين الذي اشترط حصول “تغيير جوهري” في السلطة الفلسطينية.
  3. نظام وصاية دولي أو عربي مؤقت تحت رعاية قوات الأمم المتحدة.
  4. إعادة إنتاج آليات الاحتلال المباشر، ومن خلالها تلبي إسرائيل الاحتياجات المدنية لسكان القطاع عبر مجلس عسكري كما كان عليه الوضع قبل إنشاء الإدارة المدنية عام 1981، وهو ما لا تحبذه الولايات المتحدة باعتباره “إعادة احتلال”.
  5. إنشاء نظام تكنوقراط جديد، غير مسيس، ترأسه شخصيات فلسطينية لها حضور شعبي.

يرى الباحثون في معهد القدس أن هذه الخيارات لم تعد في صيغة “سؤال مفتوح”، بل إن بذور الإجابة عنها بدأ غرسها من قبل كابينيت الحرب، وهي تشكل حاليًا أحد أهداف العملية العسكرية البرية في القطاع. فإلى جانب الهدفين العسكريين البارزين للعملية العسكرية (إنهاء قدرات حماس العسكرية، وإعادة الأسرى الإسرائيليين)، هناك هدف آخر يتمثل في تحويل قطاع غزة إلى حيز على شفا كارثة إنسانية قد يستوجب، بشكل لا غنى عنه، وجود نظام حكم من طراز جديد لمعالجة هذه الكارثة الإنسانية، وتولي شؤون سكان القطاع في حيز تنعدم فيه، بسبب الضربات العسكرية المدمرة، مقدرات الحياة.

وبالتالي، فإن على أي سلطة فلسطينية مستقبلية على قطاع غزة أن تتعامل مع الدمار الشامل، إذ إن معظم الجزء الشمالي من قطاع غزة لم يعد صالحًا للسكن البشري وسيبقى كذلك لفترة طويلة. ولن يتمكن السكان المدنيون من الحصول على الخدمات الصحية الكافية، وستعمل نظم التعليم والصحة والعمالة بصورة جزئية جدًا. من هنا، يتحول الدمار شبه الشامل للقطاع إلى “كلمة السر” التي سوف تحدد من هي الجهة الفلسطينية القادرة فعلًا على إعادة إعمار القطاع وضخ الحياة المدنية فيه من نقطة تكاد تكون قريبة من الصفر. هنا، يتحول “الدمار شبه الشامل” إلى أداة إستراتيجية بيد إسرائيل، والتي لا يجب أن تنسحب من القطاع إلا بتوفر شرطين:

  1. وجود سلطة جديدة لا تشكل تهديدًا أمنيًا أو سياسيًا لإسرائيل. التهديد المقصود لا يشمل فقط الجانب الأمني-العسكري (مثل وجود بنية للمقاومة المسلحة كما كان الوضع عليه قبل 7 أكتوبر)، وإنما أيضًا عدم وجود “تحريض سياسي” ضد إسرائيل (مثلا، وجود مناهج تعليم تحريضية، أو تشريعات لاحتضان أهالي الأسرى والشهداء كما هو معمول به حاليًا في الضفة الغربية).
  2. تخلي السلطة الجديدة عن السيادة الأمنية لصالح إسرائيل بحيث تكون للأخيرة “حرية مطلقة” بالعمل العسكري في كل قطاع غزة.

التكنوقراط أفضل من الأحزاب السياسية!

لقد وضُعت العديد من التصورات السياسية المتعلقة بمستقبل قطاع غزة، واقتُرحت أسماء فلسطينية للوقوف على رأسها. قد لا يهم هنا الإشارة إلى هؤلاء الأشخاص بقدر ما يهم تحليل المنطق الكامن وراء هذا التفكير الإستراتيجي. في هذا السياق، يرى الباحثون الذين يقدمون دراساتهم باعتبارها مقترحات أمام صناع القرار الإسرائيليين بأن التجربة الإسرائيلية مع منظمة التحرير الفلسطينية، والسلطة الفلسطينية تحديدًا، هي تجربة سيئة وفاشلة. منذ توقيع اتفاق أوسلو، كانت السلطة الفلسطينية تحريضية وعدائية لإسرائيل. ومع أن جو بايدن لم يشرح ما المقصود بضرورة حصول تغيير جوهري على عمل السلطة الفلسطينية، إلا أن الباحثين الإسرائيليين يرون أن السلطة التي يجب أن تتعامل معها إسرائيل في اليوم التالي للحرب يجب أن تضع على رأس مهماتها إحداث تغيير كامل في المناهج التعليمية (لضمان جيل جديد من الفلسطينيين أكثر “تسامحًا”)، وأن تتوقف فورًا عن دفع المرتبات لـ “الإرهابيين” الفلسطينيين سواء الأسرى أو عائلات الشهداء. كما لا يجب أن تشكل السلطة الجديدة لاعبًا سياسيًا مستعدًا لتحدي إسرائيل في الهيئات الدولية أو أن تشرف على حملات لنزع الشرعية عنها في محافل دولية مختلفة.

قد لا تتوفر هذه الشروط في سلطة يقف على رأسها تنظيم سياسي فلسطيني، بل “سيكون من الصواب محاولة بناء نظام حكم تكنوقراطي مدني فلسطيني كنموذج جديد”.. فقط حكومة تكنوقراطية، حسب الباحثين الإسرائيليين، ستكون قادرة على الاستمرار في إدارة شؤون الفلسطينيين، وهي التي قد تكون على قدر كافٍ من المسؤولية والمهنية لتسلم مقاليد الحكم في قطاع غزة. وينصح الباحثون الإسرائيليون بأن تتوفر في هذه السلطة التكنوقراطية الشروط التالية:

  1. ألا تكون مفاهيم حق العودة والإعجاب بالكفاح المسلح جزءًا من ثقافة أو روح السلطة الجديدة. وتحقيقًا لهذه الغاية، يجب تفكيك جميع التشكيلات التي تديم قضية اللاجئين الفلسطينيين، مثل تفكيك المخيمات واستبدالها بأحياء سكنة جديدة وإنهاء خدمات وكالة الأونروا. فلا يوجد مبرر لاستمرار وجود هاتين المؤسستين (المخيم والأونروا) تديمان بشكل ممنهج وعي اللاجئين بأنهم لا يزالون لاجئين.
  2. الشرط الثاني هو أن تكون هذه السلطة مقبولة مهنيًا وخالية من هيكليات الفساد والمحسوبية. ويشير هذا الشرط إلى أحد جوانب الفشل في اتفاق أوسلو الذي سمح بتدفق مليارات من الدولارات لصالح الفلسطينيين. وبدل من أن تقوم السلطة الفلسطينية القائمة بصرفها لإعادة تشكيل المشهد الاجتماعي-الثقافي الفلسطيني وتحويله إلى مشهد غير مسيس وغير عدواني تجاه إسرائيل، اهتمت هذه السلطة في توجيه الأموال إلى جيوب لا تستحقها. وبالتالي، فإن سلطة تكنوقراطية غير مسيسة، ولا تشبه هياكل السلطة القائمة حاليًا، قد تكون قادرة على نيل ثقة المجتمع الدولي الذي سيمول قطاع غزة في اليوم التالي للحرب.
  3. يجب أن يكون الهدف الإستراتيجي للسلطة الجديد هو الانفكاك المدني عن دولة إسرائيل مع الخضوع الأمني الشامل لها. وحسب الصيغة المستخدمة من قبل مجموعة الباحثين، فإن الانفكاك المدني لا يعني التحرر من سيطرة إسرائيل الأمنية أو تقييد قدرتها على العمل العسكري داخل القطاع في المستقبل. في المقابل يعني الانفكاك المدني التقليل من التبعية الإدارية لسكان القطاع على إسرائيل في تقديم الخدمات العامة من كهرباء، وطاقة ومياه وأسواق عمل. هذا يعني أن واقع التنسيق والارتباط المتبع حاليًا مع قطاع غزة (لكن أيضًا مع الضفة الغربية) لم يعد خيارًا ملائمًا لاستمرار العلاقة بين الفلسطينيين وإسرائيل.

وتبقى هذه الأفكار مجرد مقترحات، على الرغم من أنها تصدر عن باحثين يعتبرون أنفسهم خبراء في الأمن القومي الإسرائيلي وعلى صلات مختلفة مع صناع القرار الإسرائيليين. ومهما يكن من أمر، فقد أوضح رئيس الوزراء الإسرائيلي أن السلطة الفلسطينية الحاكمة في الضفة الغربية “لن يكون لها موطئ قدم في غزة”، على الأقل في اليوم التالي للحرب. وقد اشترط بايدن عودتها إلى القطاع بحصول تغيير جوهري عليها. وعليه، يوصي الباحثون بأن تعمل السلطة الجديدة المقامة في غزة بشكل مستقل وغير تابع للسلطة المقامة في الضفة الغربية.

 

شاهد أيضاً

من سحب الألوية إلى إعادة البوارج: مآزق دولة الاحتلال

يمكن أن تتعدد القراءات السياسية أو العسكرية أو اللوجستية أو حتى الاقتصادية للقرار الأخير الذي …