*العلامة السيد طاهر فضل الله*
(1865- 1942)
◾من جبل عامل إلى العريش في مصر…سيرة نجاة وموقف.
◾ السيد.. الهارب من الظلم، الإمام في المنفى.
◾قصة رجل دين عاملي تحدى الدولة العثمانية بحنكة وشجاعة ،واخته العالمة غطّت انسحابه ببطولة قلّ نظيرها.
في عيناثا إحدى قرى جبل عامل،حيث تنفست الأرض العلم وتفتحت في الساحات قصائد الشعر والمواقف، ولد السيد طاهر فضل الله في اسرة علمية وبيت عامرٍ بالعلم والأدب .تلقى علومه الاولية على والده السيد طالب ثم استكمل دراسته على يد علماء كبار في بلدته عيناثا ومدرسة بنت جبيل وغيرها حتى وصل الى مرحلة علمية خولته ان يرتقي المنبر باكراً.كان خطيباً حسينياً مُفوهاً ،مزج بين السيرة الحسينية والوعظ والإرشاد، وعالماّ دينيا مرمُوقاً ،عرف في قريته والقرى المجاورة بحضوره وخُطبه التي كانت تجسد واقعة كربلاء كما لو كان يشاهدها،كما جدد في اساليب احياء المواسم العاشورائيه عبر اقامة مسرحيات تشبيهيه لمأساة كربلاء ببلاغة مسرحية من خلال عرض لواقعة الطف ،حيث كان موكب السبايا يسير في الطرقات مع قوافل الجمال والخيول حيث تحتشد الاهالي والعلماء وصدى صوته الشجي يبكي الحجر ويلهب القلوب.
لكن دوره لم يقتصر على الدين، بل امتد إلى مقاومة الظلم ، وقف بشجاعة في وجه تعسف الحكم العثماني حين بدأ الجنود يسوقون شباب القرى إلى أتون الحرب في ما عرف ب”السفر برلك”، ذاك النفي الجماعي الذي التهم الرجال دون رجعة.
رأى السيد طاهر في ذلك جريمة لايسكت عنها،فوقف موقفاً شجاعاً لا يأخذ إلا من أهل البصيرة والعزم. حاول ثنيهم بالحكمة والموعظة ، لكنهم اصروا ،فما كان منه إلا ان ابتكر حيلة نادرة، فصنع ختماً خشبياً باسم السلطة العثمانية ،يمنح بموجبه تصاريح تُعفي الشباب من الخدمة.
سارت الأمور بهدوء الى أن أرهق الخوفُ أحد حاملي التصريح فاعترف تحت الضغط بمصدره.
صدر الحكم سريعاً: *الإعدام شنقاً*. في شهر رمضان 1916
أُرسلت قوة عسكرية وحاصرته في داره. لكنه بدهاء العلماء ارتدى عباءة نسائية سوداء ،وخرج من أمام الجنود كأن لا شأن له بالامر ،متخفياً في ملامح أمٍ أو أختٍ من نساء عائلته.وما إن اقتحم الجنود الغرفة التي كان يُفترض أن يكون فيها حتى ادركوا خديعتهم .
*تضحية تُغطي الانسحاب*
لكنهم لم يخرجوا خالي الوفاض.اذ أمسكوا بأخته السيدة *جميلة فضل الله* ، رهينة آملين أن يُسلم نفسه. لكن الفتاة كانت من ابرز نساء زمانها علماّ وقيادة وصاحبة أكبر مدرسة قرآنية يقصدها الطلاب من قرى عديدة، لتعلم القراءه والكتابة في زمنٍ سادت فيه الأمية ،خاصة بين النساء . كانت تعرف أنهم يريدونها وسيلة ضغط وأنهم يقتادونها الى المغفر في بنت جبيل كورقة في محاولة لكسر صمود اخيها.
كانت تمشي معهم بخطى ثابتة ،لا تسأل عن مصيرها بل كيف تحفظ مصير اخيها.وعند مرورهم قرب عين الماء القريبة (عين الجوزة) أستأذنتهم بشرب الماء .
اقتربت من العين، رفعت رأسها الى السماء ،وصرخت من اعماق القلب: *”الله اكبر”*
ثم ألقت بنفسها داخل عين الماء على عمق خمسة عشر متراً بكل وعيٍ وجرأة. عندها ارتفعت أصوات النساء بالصراخ والعويل مدعين أن الجنود هم من دفعوها.
فزع الجنود من ردة فعل الناس وفروا مذعورين نحو بنت جبيل كأن صاعقة نزلت ،فهربوا يجرون خلفهم خيبتهم وتركوا المكان ومن فيه.وأسرع من بقي من رجال القرية واخرجوها من العين سالمة لم تصب بمكروه،كأن العناية الإلهية مدت لها يداً من الغيب .
لقد غطّت انسحاب اخيها بجسدها ،وواجهت البنادق بالدعاء والتكبير ،وعين ماء ،وكتبت صفحة نادرة في سجل التضحيات ،لم تكن فقط فتاة تُعلم وصاحبة اكبر مدرسة قرآنية ،بل كانت مدرسة في التضحية ،وقلبها قلب فارس لا يعرف التراجع.
أما *السيد طاهر* فبقي متخفياً حتى هدأ الليل ،ثم تسلل الى قرية *مجدل سلم نزل فيها عند *السيد محمد حسن فضل الله* الذي كان يومها يطلب العلم على جده لأمه الشيخ مهدي شمس الدين. ولما شاع خبر وجود شخص فار ،خشي البعض وخافوا من ردة فعل السلطة العثمانية ضد القرية واهلها ،فجاء وفد من وجهاء البلدة يطلبون من مضيفه أن لا يسمح له في البقاء في قريتهم. لكن ذلك اصطدم برفض قاطع من السيد محمد حسن قائلاً :
“ما يصيبه يصيبني ،وانا أتحمل مسؤولية بقائه،”.
كان *السيد طاهر* يسمع هذا الحديث من خلف الستار ،فعلم أن بقائه اصبح غير آمن وقد يجرّ البلاء على أهل البلدة.وفي الليلة نفسها ،قرر الخروج.
*وهنا تبدأ رحلته الكبرى*.
خرج في سواد الليل وحده ، يقطع الوديان والجبال،لا رفيق له سوى نجوم متناثرة في السماء.وفي شعاب الاحراش كانت الأرض تسكنها الوحوش اكثر من البشر . حيث الغابات تمتد كثياب الليل ،كان عليه أن ينجو لا من الجنود هذه المرة،بل من الحيوانات المفترسة.كان يختبىء خلف الصخور حين يسمع دبيب الذئاب أو زئيرا يتردد من جبل الى جبل، تقشعر له الأبدان ،تسلق الأشجار إذا اقترب الخطر،وسكون الله في قلبه.
كانت رحلة نجاة من كل أشكال الموت: *القتل ،الخوف ،الوحشة،الجوع.*
أخيراً وصل إلى *العريش في مصر*، حيث لا يعرفه أحد ، اعتمر عمامة على المذهب المالكي وأقام بين الناس إماما وخطيبا وواعظا ،فأحبوه وأكرموه كأنما عاش في أرضهم لا غريباً ولا لاجئاً ،دون أن يعلموا قصته الكاملة.
لكن الشهامة والشجاعة لا تغيب عن أهل الإيمان، فحين وصله خبر وفاة إبن عمه *السيد فضل الله فضل الله*(والد السيد اسعد فضل الله إمام بلدة القليلة ،والسيد محمد) الذي كان من أوائل من سيق إلى الجندية ،وقد وافته المنية في أحد معسكرات الجيش العثماني في مصر ،ولم يكن يبلغ الأربعين من العمر.سارع السيد طاهر إلى تغسيله وتكفينه بيديه والصلاة عليه وشارك في دفنه رغم الخطر.
بعد زوال الحكم العثماني عاد *السيد طاهر*إلى قريته عالماً وخطيبا ،بقي يؤدي رسالته التي لم تنقطع: على المنبر ،وفي البيوت ،وبين الناس حتى وافته المنية في شهر ربيع الأول 1360 هجرية، وأوصى أن يصلي عليه *آية الله السيد محمد حسن فضل الله*،وقد اصبح يومها من كبار المجتهدين ،صلى عليه بمهابة وشيع تشيعا مهيباً ،ودفن في مقبرة خاصة.
وهكذا ظل اسم السيد الشجاع وأخته العالمة قصة تُروى جيلا بعد جيل تثبت أن في جبل عامل رجالاً ونساء كتبوا التاريخ بالحبر والدم والحكمة.
بقلم عدنان صفي الدين فضل الله
ختم وتوقيع السيد طاهر فضل الله (إمام قرية عيناثا طاهر ١٣١٢).ما يعادل 1894ميلادي