سليم سلامة
في هذه المقالة (الخامسة في هذه السلسلة) نواصل عرض المفاهيم المركزية الأبرز التي شكلت قاعدة الرؤية الأمنية ـ السياسية الإسرائيلية التي تُجمع قطاعات واسعة جداً في المجتمع الإسرائيلي على حقيقة أنها مُنيت بالفشل الذريع، بل بالانهيار التام، ويوماً بعد يوم تتسع وتتعالى دائرة الأصوات الداعية إلى إعادة النظر فيها، بعد الاجتهاد بداية في تحديدها بصورة عينية ودقيقة، انطلاقاً من القناعة بأن تحديد تلك المفاهيم هو الخطوة الأولى التي لا مناص منها في مسيرة إعادة ترميم ما ينبغي ترميمه في العقيدة السياسية والأمنية الإسرائيلية، ثم في إعادة هيكلة الأجهزة، المنظومات والأذرع المكلفة بتطبيق هذه العقيدة في المستقبل.
هذا العرض، الذي توقف في الحلقة الأخيرة (3 كانون الأول الجاري) عند مفهوم “الجيش كافٍ لكلّ المهمّات”!، مبنيٌّ على الرصد والتوثيق اللذين يقدمهما مشروع مشترك أطلقته مؤخراً “مؤسسة بيرل كتسنلسون”، التي يقول شعارها المركزي: “نبني أسساً طويلة الأمد لمعسكر المساواة في إسرائيل”، و”مركز مولاد لتجديد الديمقراطية في إسرائيل”، تحت عنوان “انهيار المفاهيم ـ الطريق إلى إخفاق 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023”. وقد رسم هذا المشروع خارطة تفصيلية بالمفاهيم التي انهارت، فقادت بنفسها وبانهيارها إلى الإخفاق، وحدّد ضمنها 11 مفهوماً مركزياً. وكنا قد عرضنا في الحلقات السابقة لخمسة من هذه المفاهيم المركزية ونعرض، في هذه الحلقة، لمفهومين مركزيين إضافيين هما السادس والسابع في “وثيقة المفاهيم” هذه، تحت العنوانين التاليين: المفهوم السادس ـ اليمين قويّ في الأمن؛ المفهوم السابع ـ الاستعداء والتحريض لا يمسّان الأمن.
“حضيض أمنيّ غير مسبوق”
منذ سنوات عديدة، نسبياً، تتردد في إسرائيل مقولة أن اليمين، بأحزابه وحكوماته وقادته، هو في القضايا الأمنية أقوى، أكثر صلابةً وتشدداً وحزماً من “اليسار” و”الوسط” بأحزابهما وحكوماتهما وقادتهما. وقد أضيفت إلى هذه المقولة لاحقاً مقولة أخرى مكملة لها هي “نتنياهو سيد الأمن”. لكنّ “حكومات اليمين، في الواقع”، كما يجزم معدّو “وثيقة المفاهيم” التي نستعرضها، قد “قادت إسرائيل إلى حضيض أمني غير مسبوق” وأن هذه النتيجة التي آل إليها الوضع الأمني “لم تكن عفوية ولا محض صدفة”، مثلما أن “الفجوة بين التصريحات الطنّانة التي يطلقها قادة اليمين وبين انجازاتهم على أرض الواقع ليست وليدة الصدفة”، بل إن كلتيهما “من بين النتائج الحتمية لأداء اليمين وقياداته والممتد منذ سنوات عديدة ويعتمد، أساساً، على الخطابة “الصارمة” كوسيلة للتغطية على سياسات ضعيفة وخطيرة”.
ويحدد “معدّو الوثيقة” بداية هذا الأداء، الذي يختارون توصيفه بعبارة “بالكلام، اليمين كان قوياً دائماً”، في الانتخابات الإسرائيلية العامة التي جرت في العام 1999، حين اختار حزب الليكود، وبنيامين نتنياهو شخصياً، شعاراً مركزياً لتسويق نفسه بوصفه “قائداً قوياً لشعب قوي”، ثم استُبدل هذا الشعار في انتخابات العام 2006 بشعار آخر يقول إن “نتنياهو قوي في مقابل حماس”، ثم استبدله في انتخابات العام 2009 بشعار آخر تعهد فيه بـ “القضاء على سلطة حماس”. ولم يقتصر الأمر على حزب الليكود، أكبر أحزاب اليمين، وزعيمه نتنياهو، بل ميّز أيضاً جميع الأحزاب اليمينية الأخرى وقادتها: أفيغدور ليبرمان، زعيم حزب “إسرائيل بيتنا” ادعى بأنه “وحده يفهم العربية”، بينما تعهد زعيم حزب “البيت اليهودي” ورئيس الحكومة السابق، نفتالي بينت، بـ “الانتصار على حماس”، ثم جاء رئيس حزب “عوتسما يهوديت”، إيتمار بن غفير، ليعلن أنه هو الذي سيُثبت للجميع “من هو صاحب البيت هنا” وأنه “مقابل كل صاروخ من عندهم، سيتلقى الفلسطينيون 50 صاروخاً من عندنا”.
وعشية الانتخابات الإسرائيلية العامة التي جرت في العام 2015، نشر حزب الليكود في إطار حملته الانتخابية شريطاً يظهر فيه مقاتلون من تنظيم “داعش” يستقلون سيارة “تندر” بيضاء اللون ويلوّحون بأعلام هذا التنظيم، ثم يتوقفون بجانب سائق إسرائيلي ويسألونه، بلكنة عربية: “كيف نصل إلى القدس، يا أخ؟” ويردّ السائق: “اتجهوا يساراً”. ثم يُختتم الشريط بشعار: “اليسار سوف يخنع أمام الإرهاب”، على خلفية سوداء وأصوات قرع طبول الحرب، تليها العبارة التالية: “إمّا نحن وإمّا هُم. فقط الليكود برئاسة نتنياهو”.
بعد ذلك بسبع سنوات، يكتب معدّو الوثيقة، “في عهد الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل، وخلال أقل من سنة على تشكيلها، تتحول حملة الليكود الكابوسية إلى واقع، هو الكابوس بعينه”، حين “اقتحمت سيارات التندر البيضاء اللون الأراضي الإسرائيلية يوم 7 تشرين الأول وخلقت الأزمة الأمنية الأكبر والأخطر في تاريخ دولة إسرائيل”.
لكن، في امتحان النتيجة وحصاد 14 سنة متتالية من السيطرة على مقاليد الحكم وما تخللها من تهديدات وتصريحات حربجية نارية، لم يطرح اليمين أي بديل لأي مخرج من حالة الصراع التي تمسك بخناق إسرائيل وتقودها من سيء إلى أسوأ. وفي غياب مثل هذه البدائل المبنية على رؤية سياسية وأمنية متماسكة قادرة على مواجهة الواقع المعقد ومعالجته، فقد “أدمن اليمين”، كما تقول الوثيقة، “المقترحات السخيفة والرمزية التي لا علاقة، البتة، بينها وبين حماية الأمن”.
أما “العقيدة الأمنية” الوحيدة والمثابرة التي عرضها اليمين على مدار سنوات حكمه فهي: توسيع الاستيطان والمستوطنات، بزعم أن “بناء البيوت ورياض الأطفال في قلب مجتمع سكاني معادٍ هو الضمانة الأكيدة لأمن إسرائيل”. وتورد “وثيقة المفاهيم” نماذج كثيرة جداً للتدليل على هذه “العقيدة”، ثم تقول: “لكن، مع مرور السنوات اتضح بشكل جلي أن المستوطنات في المناطق ليست ذخراً أمنياً وإنما هي عبء”، بل إن “الحقيقة هي أن إيديولوجية اليمين الاستيطاني تقوم على التضحية بأمن إسرائيل، لا حمايته، وتعتبر موت أعداد كبيرة من الإسرائيليين ثمناً معقولاً في الطريق نحو تخليص أرض إسرائيل”.
وتخلص الوثيقة إلى أن تصريحات اليمين وقياداته الرّنانة حول الأمن لم تأت إلا بنتائج عكسية. أما وقد تحطم وهم “نتنياهو سيد الأمن” و”اليمين قوي في الأمن”، فقد حان الوقت للحسم: هل تطمح دولة إسرائيل لتبني سياسات أمنية جدية ومهنية أم ستواصل الاكتفاء بزعران تتلخص سياساتهم الأمنية بشعارات من قبيل “إلقاء قنبلة نووية على غزة”؟
“التحريض ضد نصف الشعب يُقوّض جيش الشعب”!
يحاول معدّو “وثيقة المفاهيم” هذه، في الحديث عن مفهوم “التحريض والاستعداء لا يمسّان بالأمن”، إبراز مدى الضرر الذي ألحقه اليمين وتحريضه ضد “اليسار” و”الوسط” بالنسيج الاجتماعي في المجتمع الإسرائيلي ـ اليهودي، ثم انعكاس ذلك على الجيش الإسرائيلي ومدى الضرر الذي يلحق به من جراء ذلك بما يشكل مساً كبيراً به من حيث كونه “جيش الشعب” كله! ويؤكدون، في هذا السياق، أنه “ليس بإمكان الدولة التي يشكل جيش الشعب ضمانة بقائها ووجودها أن تسمح لنفسها بأن تكون قيادتها مصدراً وبوقاً للتحريض ضد نصف الشعب”.
وتستعرض الوثيقة سلسلة طويلة، تمتد على سنوات عديدة، من التصريحات والممارسات التحريضية التي صدرت وبدرت عن اليمين الإسرائيلي وقياداته المختلفة، وكان بنيامين نتنياهو بشكل خاص في مقدمتها وعلى نحو أبرز، ضد “اليسار” و”الوسط” وقياداتهما، متوقفة بصورة خاصة عند حملة التحريض التي أدت إلى اغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، إسحق رابين، في تشرين الثاني 1995، مروراً بالعديد العديد من المحطات التحريضية والاستعدائية هذه، حتى مؤخراً فقط حين اتهم نتنياهو المنظمات التي تولت تنظيم وتنسيق الحملات الاحتجاجية ضد برنامج “الإصلاح القضائي” الذي طرحته حكومته وائتلافها ـ بينما أسماه معارضوه “خطة الانقلاب القضائي” أو “خطة الانقلاب على الحكم” ـ بأنها “قد التقت وتحالفت مع م. ت. ف. ومع إيران”، ثم انتهاءً بما تلا هجوم حركة حماس المباغت على بلدات ومعسكرات الجيش في منطقة “غلاف غزة” حين خرج نتنياهو ليتهم، بصورة صريحة وعلنية، أجهزة الأمن الإسرائيلية بالمسؤولية عن هذا الإخفاق التاريخي، إضافة إلى ما سبق ذلك وما تبعه من اتهام عناصر مختلفة بـ”الخيانة من الداخل”.
وتقول الوثيقة إن دراسات عديدة أجريت في العالم قد أثبتت، على نحو مستمر ومتتابع، أن الحكومات الشعبوية هي أقل أهلية وكفاءة في إدارة الأزمات الوطنية وأن المجتمعات التي تتميز بالتقطب الحاد هي أكثر عرضة للتأثر بالحروب النفسية وبالإعلام المغالِط والمضلِّل. وهي تعتبر في هذا السياق أن المجتمع الإسرائيلي أصبح اليوم أكثر تقاطباً بكثير، بعد سنوات عديدة من حكم اليمين ونتنياهو منذ العام 2009 تحديداً أقام خلالها “جهازاً دعائياً خاصاً ومتطوراً أنيطت به مهمة بث وترسيخ رسائل مشبعة بالكراهية تجاه كل في بيت في إسرائيل”.