تتقابل سرديتان في الإعلام اللبناني منذ الأسبوع الماضي. تتحدث الأولى عن التفاوض مع إسرائيل، بعد مبادرة رئيس الجمهورية جوزاف عون لطرحه من دون الغوص في تفاصيل هذا التفاوض، فيما تتحدث السردية الثانية عن نهاية “حزب الله”، على ضوء التفوق التكنولوجي الذي ظهر في الحرب الأخيرة.
لكن السرديتين تلتقيان عند سؤالٍ واحد: لماذا تدفع واشنطن، على ألسنة مسؤوليها، باتجاه التفاوض طالما أن التفوق التكنولوجي قادرٌ على حسم الحرب؟
التفوق التكنولوجي
يسعى كثيرون اليوم إلى تكريس سرديةٍ جديدة تُظهِر إسرائيل كقوةٍ لا تُقهَر، انطلاقًا مما تمتلكه من تفوقٍ تكنولوجي وعسكري واستخباري غير مسبوق. هذه السردية، التي تتغذى من مشاهد “الذكاء الاصطناعي المقاتل” وأنظمة الاستشعار والاغتيالات الدقيقة، تُقدَّم على أنها برهان على نهاية خطاب الصمود، وأن الحل يتمثل بالتسليم لاسرائيل كقوة لا يمكن مواجهتها، لأن أيّ مواجهة جديدة مع إسرائيل ستكون مغامرة محسومة سلفًا.
بعض الإعلاميين والناشطين يروّجون لهذه الفكرة، في مقابل تنديد بهذا الخطاب، والقول إن هناك بُعدًا نفسيًا واستراتيجيًا خلف هذه السردية، هدفه ترسيخ الشعور بالعجز الجماعي أمام التفوق التكنولوجي الإسرائيلي وتقديمه كقَدَرٍ لا يُقاوَم.
شرعية اجتماعية
غير أن هذه الرؤية، رغم انتشارها، تغفل جوهر الصراع: التكنولوجيا ليست فاعلًا مستقلًا، بل أداة ضمن بيئة بشرية وديموغرافية تحدد حدودها وجدواها. هي سلاح، شأنه شأن الأسلحة الأخرى، يمكن أن يحسم معركة، لكن يستحيل أن يحسم نزاعاً. هي أداة للسيطرة وتحسين الشروط، لكن هل تكون بديلاً عن التفاوض؟
قبل سنوات، بيّنت دراسات مؤسسة RAND ، أنّ أكثر من 70% من النزاعات التي شهدت تفوقًا تقنيًا من طرفٍ واحد، انتهت بتسويات سياسية لا بانتصارات عسكرية. يلتقي ذلك مع تسليم سياسي بأنّ القوة العسكرية لا تُنتج الاستقرار ما لم تترجم إلى قبولٍ اجتماعي وشرعيةٍ سياسية.
يتسمك مؤيدو هذه الفكرة، بما أنتجته الحرب في غزة وجنوب لبنان: ما أسفرت عنه الحرب، لم يكن بديلاً عن مساعٍ للتفاوض والتوصل الى تسويات تنقل النزاع من مستوى الى آخر.. فالتجربة الميدانية اليوم تؤكد امتلاك إسرائيل أحدث أنظمة الذكاء الاصطناعي والرصد، لكنه لم ينهِ الحالة الرافضة للاحتلال، ولم يقد الجموع نحو إنهاء النزاع بالاستسلام لاسرائيل، أو بالتسليم لهذا التفوق التكنولوجي.
ففي الضفة الغربية والقدس، اللتين تعتبران البيئة الأمنية الأكثر خضوعًا للمراقبة والتجسس، تستمر العمليات الفردية والاشتباكات المحدودة المعبّرة عن حيوية الرفض الشعبي واستحالة إخضاع الامتداد الديموغرافي بالمراقبة التقنية وحدها.
وفي غزة، رغم الحصار والتتبع الإلكتروني الدقيق، تُظهر المواجهة المستمرة أن الكثافة السكانية والبيئة الاجتماعية قادرتان على تقويض نتائج الحرب بأشكال مختلفة.
من الميدان إلى التفاوض
في مقابل التجربة الفلسطينية، تخرج الدعوات للتفاوض الذي يمثل امتدادًا طبيعيًا لعجز التقنية عن الحسم، والتقبل المجتمعي. بعد كل حرب، تهبط الآلة من عليائها وتعود السياسة لتفرض نفسها كأداة إدارةٍ للواقع لا كترفٍ دبلوماسي.
ولهذا، تدفع واشنطن في لبنان مثلاً نحو تسويةٍ مع إسرائيل. في ظل كل التفوق التكنولوجي، والتدمير الناتج عن أحدث أسلحة أميركية استخدمتها إسرائيل، لم يُحسم الصراع، بالنظر الى أن الدولة في المستوى الأول، والشعب في المستوى الثاني، لم يترجما نتائج هذا التفوق، في سياق سياسي يسلّم لتفوق إسرائيل، رغم أنهما لم يترجما النتائج أيضاً في سياق ينكر التحولات.. وهما نتيجتان لا تظهران في الخطاب الاعلامي السياسي اللبناني الذي ينقسم بين طرفين، الأول يستعجل التسليم، بناء على تجربة الميدان، والثاني يتريث التسليم بخطاب صمود ووعيد، لم يُصرف في المحادثات السياسية، منذ العام الماضي.
الواقع أن التكنولوجيا تمنح تفوقًا مؤقتًا، لكنها لا تُنتج شرعية ولا تغيّر الإرادات. ما يحسم الصراع هو القدرة المجتمعية على التكيّف، أي تلك الطاقة البشرية التي تمتص التكنولوجيا وتعيد تشكيلها بما يخدم بقاءها.