عمم “حزب الله” سرديات جديدة في مواقع التواصل ضمن مشاريع إعلامية متنوعة تتبنى أدبياته السياسية والإعلامية ولا تنطق باسمه. واليوم، تُدار مشاريع رقمية وحسابات إعلامية تُحاكي جيل “الريلز” و”الترند”، والنخب أيضاً. بهذه المنصات لم يعد “حزب الله” مضطراً إلى الظهور باسمه أو بشعاراته القديمة بل تُبث رسائله بصياغات مدنية وأسلوب حديث، وتقدم خطاباً يبدو “مستقلاً” فيما يتناغم مع توجهه العام.
وفي الأشهر الأخيرة، شهد الفضاء الإعلامي اللبناني انفجاراً في عدد المنصات المستقلة ظاهرياً. من “بيروت ريفيو” إلى “المحطة”، مروراً بـ”إفتراضية”، “المرفأ”، “وقائع”، و”بوديوم”. تتكاثر المشاريع الرقمية بخطابٍ أنيق وصورةٍ مصقولة، ترفع شعارات “الحرية” و”الاستقلالية”، فيما تبدو للمتابع المتخصص نتاج بيئة واحدة، تُبدل المظهر وتُبقي على الجوهر.
وفي تسجيلاتها المصورة، النقد محسوب بالميليمتر، والمفردات مصفاة بعنايةٍ تذكر بمقص حزبي غير مرئي، أما المواقف فـ”منفتحة” بالقدر الذي لا يزعج أحداً ولا يُغضب الخوارزميات.
ورغم أن صفحة “بيروت ريفيو” التي ظهرت في آذار/مارس الماضي، لم تعلن مباشرة عن تبنيها خطاب “حزب الله”، إلا أن أي مراقب لا يحتاج الى دليل إضافي على أنها مقربة منه. خلال الاسبوع الأخير على سبيل المثال، تظهر ثلاثة منشورات تهاجم رئيس حزب “القوات اللبنانية”، ومنشور آخر يهاجم جريدة “نداء الوطن” الناطقة بإسم خصوم الحزب.. كذلك، نُشرت أربعة منشورات متصلة بالاعتداءات الاسرائيلية في الجنوب، وعدد الأطفال الشهداء.
وينسحب المحتوى نفسه، على منصة “افتراضية” التي هاجمت رئيس “القوات اللبنانية” مرتين، وانتقدت الأصوات التي تقلل من شأن التجمع الكشفي الأكبر في لبنان يوم الأحد الماضي، عبر تقريرين أيضاً، كذلك هاجمت قناة “أم تي في” في سياق موحد تتحرك به المنصات معاً بمحتوى واحد، يتبدل في أشكال تقديمه الاعلامي.
أما منصة “المرفأ”، التي انطلقت العام 2023، فتقدم تغطية متنوعة تشمل أخبار الأحزاب اللبنانية التقليدية مثل حزب “الكتائب” وحزب “القوات اللبنانية” و”التيار الوطني الحر”، إضافة إلى متابعة الانتخابات والتحالفات السياسية، مع تحليل مستمر للتطورات السياسية الداخلية. في الوقت نفسه، تحرص المنصة على تخصيص مساحة للحديث عن “المقاومة”، غالباً في سياق مدح إنجازاتها وتسليط الضوء على دورها في حفظ التوازن الوطني.
وفي الحرب الأخيرة، رأى “حزب الله” كيف استطاع المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، أن يحتل الفضاء اللبناني، وكيف صار اسمه يتردد في كل نقاش، وأن آلاف المستخدمين، حتى من خصومه، كانوا يتفاعلون معه، يسخرون منه، لكنهم في الوقت نفسه يُبقونه في مركز المشهد.
عندها، قدم الحزب خطاباً مناقضاً موجهاً أيضاً للداخل اللبناني، لا يستهدف دحض رواية اسرائيل فحسب، بل يفتت تأثيراتها في الخطاب الداخلي، ويحرج من يظهر كأنه يصدق السردية الإسرائيلية.
ويظهر، وسط هذا الزحام، أن “حزب الله” يقدم سردياته بهدوءٍ مدروس. الواضح أنه توصل الى قناعة بأن المعركة لم تعد تُخاض في الميدان وحده، بل على الشاشات الصغيرة حيث تُصنع السرديات ويتم تشكيل رأي عام، عبر منصات بديلة، أعتقت رقبته من قبضة مالكي القنوات التلفزيونية وتحولاتهم السياسية.
ويؤشر ذلك الى تغيير أساسي في استراتيجيات الحزب الاعلامية. فبعدما اعتمد طويلاً على أدواته الكلاسيكية، مثل اللافتات في الشوارع، والخطابات، والبيانات، اكتشف أن الأدبيات السياسية والتعبوية لا بد أن تتناسب مع فضاءٍ رقمي سريع ومتقلب. وأحد ميادين هذه المعركة، يرتبط بالخصوم الداخليين من سياسيين واعلاميين. فمنصة “وقائع” على سبيل المثال، تقتطف من خطابات الساسة اللبنانيين المُعارضين لمحور الممانعة أو الثنائي الشيعي، مقاطع من مقابلاتهم التلفزيونية، وتستعرضها بلا تعليق. مجرد الإضاءة عليها يحشد جمهور حزب الله وحلفائه.
في المقابل، تجري منصة “بوديوم” مقابلات مع شخصيات سياسية، غالبيتهم من المقربين من “الثنائي”، مثل مراسلة “المنار” منى الطحيني، والمحامية بشرى الخليل، والكاتب قاسم قصير، وغيرهم. كما تبرز منصة “المحطة” التي تركز على الملفات القضائية وقضايا العمالة والتسريبات، مقدمةً نفسها كمنبرٍ للتحقيق والشفافية.
وفيما تتباين الجبهات وتتغير الأساليب، تبقى الرسالة واحدة: “المقاومة مازالت حاضرة، وقادرة”…بصرف النظر عن المعنى الفعلي والعملي لهذه الرسالة. لكن ما يُرصَد باهتمام، هو أن الحزب بدأ تحوله من الداخل، منتقلاً من تنظيمٍ تعبوي كلاسيكي إلى ماكينة رقمية مهما أُنفِق عليها، تبقى أقل كلفة وأكثر فاعلية من الإعلام التقليدي، والأهم أنها تعفيه من المسؤولية المباشرة عن الخطاب وتبنّيه. تضم الماكينة هذه، مخرجين ومصممي مؤثرات وخبراء خوارزميات. صار المونتاج جزءاً من التعبئة، والمؤثرات الصوتية سلاحاً في المعركة النفسية، والمحتوى القصير بديلاً من الخطب الطويلة.
لكن المضمون، مهما تبدل شكله، يظل يخدم فكرة واحدة يستميت “حزب الله” لتأكيدها، وهي أنه ليس تنظيماً مسلحاً من زمنٍ غابر، بل جزءاً من مشهد لبناني عصري، منفتح، و”قادر على التكيف”، بطريقته، ورغم التحريض تارة، والمغالطات طوراً. ويستثمر الحزب اليوم في ما يمكن تسميته “إعلام اللاوعي”، أي ترسيخ الصورة من دون شعار، وبناء التعاطف من دون خطاب مباشر، عبر فيديوهات قصيرة تُعيد إنتاج رمزيته بلغةٍ “ناعمة” لا تُستفز خوارزميات المنصات.
ومع تكاثر هذه المنصات وتنوع اختصاصاتها، تُبنى منظومة إعلامية متكاملة – سياسية، قضائية، اجتماعية وتعبوية – تمتد خارج أطره التنظيمية الصريحة، لكنها تعمل على إعادة إنتاج صورته بلغةٍ جديدة.