مرقد الهاشميّ نُصب الشهادة في أرض عاملة

كانت زيارة تنساب بين الدمع شكراً وشوقاً وعرفاناً. بخطا متهيّبة، سلكت الطريق إلى المرقد، وهناك، ألقيت حقيبة أثقالي، قلباً قد أضناه الشوق؛ فسماحة السيّد هاشم صفيّ الدين، كما الأقدس، حبيب كان منّا وبيننا، وكنّا نتنسّم فيه عبق السيّد الأسمى الذي كان يفصل بيننا وبينه زجاج شاشة، أبعد من سماء القلب. تلوتُ لروحه الطاهرة أولى فواتح الوصال، وتركت شمس الجنوب تشعل فجيعتي الصامتة التي تهسّ في قلبي هسيس النار في الهشيم. إنّه السيّد الشهيد الهاشميّ (رضوان الله عليه) الذي أحبّنا وأحببناه، بعد أن أزاح بيننا كلّ ستائر الحجب.بدأت في جوار مرقده أوّل حواراتي مع زوّاره القادمين من مختلف المناطق. وأقسم أنّهم جميعاً كانوا يمسحون دموعهم قبل أن تطأ أقدامهم عتبة المرقد، وقبل البدء بطقوس اللقاء.

 

• حبٌّ ودموع

رأيت المرقد الشريف قبلة أنظار طلّاب الكرامة وعشّاق البطولة وأهل القيم والنبل والعطاء. كلّ ذلك ستشعرون به في هذه السطور.

قالت إحدى الزائرات بعد أن مسحت دموعها بكفّ متعبة: “إنّ ما قام به السيّد في حياته، لأجلنا جميعاً، يستحقّ أن نذكره بفاتحة وأن نقصده في زيارة الواله المشتاق”. وبعد أن لمست ضريحه بحبّ، هنّأته بالشهادة، وتمنّت أن يسير أبناؤها على نهجه. وقد أكَّد أكبر أبنائها هذا الأمر معلناً اطمئنانه أنّ السيّد “عند ربّه، وأنّ علينا أن نحمل الأمانة، ونكون بمستوى العهد الذي نقطعه كلّما أتينا لزيارته”.

وأعلنت زائرة أخرى أنّها جاءت مباشرة من مرقد سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، إلى مرقد السيّد هاشم كي تقرأ له الفاتحة من القلب تحيّة لجهاده واستشهاده. وأردف أخوها أنّه جاء يعاهد من قدّم حياته قرباناً لنا، واعداً إيّاه أن لا يترك نهجه ولا يحيد عن دربه. أمّا أخوه الأصغر، فقد باح للسيّد الهاشميّ بعشق لا ينتهي، فهو “من ضحّى لأجلنا بالروح، فضلاً عن أنّه يشبه كثيراً السيّد الأقدس، وهذا سبب إضافيّ لمزيد من العشق”.

زائرة أخرى، هي أمّ خليل، امرأة جليلة مسنّة تسند فوق مقبض عصاها مرارات السنين، قالت إنّها جاءت من بيروت، في وقت الظهيرة الحارّة، تحمل أشواقها وأمنياتها أن تكون في جواره، وأن يحشرها الله معه، وتمنّت في زيارتها الأولى لو أنّها كانت فداء له، وأعلنت أنّ إنسانيّته العميقة وأخلاقه النبيلة ستظلّان في قلبها وروحها مدى الحياة.

اللافت أنّ الحاجّة أم خليل من الطائفة السنيّة الكريمة، وهذا بحدّ ذاته مؤشّر على أنّ مختلف الطوائف تحبّ السيّد الهاشميّ وتزوره في مرقده الشريف.

وأعربت ابنتها زينب عن تأثّرها الشديد باستشهاد السيّد هاشم كما سيّد شهداء الأمّة، “وبفقده، فقدنا أباً وعمّاً وأخاً”. وقالت إنّها كانت تشمّ فيه رائحة النبوّة، وأنّها أحسّت بعده بيتم لا يزيده الشوق إلّا تأجّجاً. ثمّ طلبت منه في آخر حديثها أن يدعو لها، فهو كان ولا يزال إلى الله أقرب.

وتحدّث رجل آخر عمّا يعنيه له السيّد الهاشميّ الشهيد، “فهو لا يقلّ أهميّة عن الشهيد الأسمى”. وهنا، خنقته عبرة منعته من إكمال حديثه، لتكمل زوجته التعبير وهي تمسح بيدها دمعاتها: “إنّ السيّد لا يزال يعطينا الكثير، كما كان يفعل في حياته، فنزوره كلّما اشتقنا إلى نسائم النصر من طهر دمه”، مع الوعد بزيارته بشكلٍ متكرّر، لأنّ عطاءه مستمرّ، وستظلّ تتزوّد منه.

 

• تاريخ مع الجهاد

بعد حديث طويل عن فضائل السيّد الهاشميّ الأخلاقيّة والدينيّة، أعلن صديق لسماحته صادفناه هناك زائراً، أنّ في حياة الهاشميّ جانباً جهاديّاً عظيماً، يستحقّ تسليط الأضواء عليه لتستفيد منه الأجيال، قائلاً إنّ السيّد قد بدأ جهاده باكراً، في جبهات متعدّدة، منها ما هو خارج لبنان، كجبهة الفاو التي خاض فيها النضال مع الرعيل الأوّل كالشهيد الرملاوي وقريبه السيّد يوسف والسيّد عيسى. وقد جمع في حياته بين الجهادَين الكبيرَين العسكريّ والتبليغيّ، إذ إنّه كان يستغلّ أوقات استراحته بجهاد التبليغ، مرسّخاً في المجاهدين الثبات اليقينيّ أنّهم في صراع الحقّ ضدّ الباطل.

 

 

• زوّار المرقد: لهفة وحبّ

ماذا عن تفاصيل الدفن والمرقد؟ أعلن فضيلة الشيخ محمود عبد الجليل، مدير شؤون مرقد السيّد الهاشميّ، أنّ سماحته كان قد ترك أمر مكان دفنه للسيّد الأسمى؛ فهو كان يرغب في أن يُدْفن في أرض عاملة، لأنّه كان يرى فيها قداسة لا تقلّ عن غيرها من الأماكن المقدّسة، وهي أرض الجهاد المقدّس التي ارتوت بدماء الكثير من الشهداء. ولأنّ قيادة حزب الله كانت تعلم بمدى اعتزازه بأنّه ابن هذه الأرض، قرّرت دفنه فيها، ليكون في الجنوب معلم جهاديّ، كما مرقد سماحة السيّد الشهيد عبّاس الموسويّ (رضوان الله عليه) في النبيّ شيث، ومرقد الشهيد الأسمى في ضاحية بيروت.

ورأى الشيخ عبد الجليل أنّ السيّد هاشم أصبح أكثر حياةً بعد استشهاده، فهو يتلمّس في وجوه زوّاره من العامليّين كلّ ملامح الحب واللهفة. وأشار إلى الوفود التي تأتي من المناطق البعيدة، كالهرمل، حيث يشكّل أهلها مجموعات معظمها من عوائل الشهداء، بمبادرة فرديّة لتجديد عهد البيعة والوفاء للهاشميّ الجليل.

 

• إجراءات تحسينيّة

عند سؤالنا عن شكل المرقد الشريف في الآتي من الأيّام، أعلن الشيخ الفاضل أنّ السيّد الهاشميّ لا يقبل -من خلال ما يعرفونه من إيثاره وتضحياته – أن يُبنى له مرقد فخم، في الوقت الذي لا تزال فيه بيوت الناس ركاماً فوق ركام. لذلك، ارتأى الموكلون بشؤون المرقد إجراء تحسينات تخدم الزوّار، الذين يأتون بدافع الحبّ والولاء، فأقاموا سقفاً للطريق المؤدّية إلى المرقد كي لا يتأذّى الزوّار صيفاً أو شتاءً، وعبَّدوه بما يريح خطاهم، بعد أن كان وعراً، وتركوا على جانبيه مساحات لركن السيّارات. كما تحدّث فضيلته عن إنشاء قاعة للمحاضرات الدينيّة والثقافيّة وسائر النشاطات الفكريّة تتّسع لمئتين وخمسين شخصاً حاليّاً، كي يبقى مرقد الهاشميّ مشعل نور وهداية. فضلاً عن إنشاء مصلّى للنساء وآخر للرجال، مع مرافقهما الصحيّة كي لا يتأخّر الزوّار عن أداء الفريضة التي كانت أهمّ ما يحرص عليه سماحته (رضوان الله عليه).

كما تحدّث عن أهميّة نشر المساحات الخضراء حول المرقد الشريف، تجميلاً للمكان، وقد زُرعت شجرتَا زيتون على جانبَيْه، لما لهذه الشجرة من قداسة ورمزيّة، فهي تشير إلى الثبات والتشبّث بالأرض كما فعل الشهداء، ومنهم صاحب هذا المرقد الجليل. وأشار فضيلة الشيخ إلى شجرة اصطناعيّة تحمل في أغصانها صور الشهداء وقلاداتهم، وهم الذين رافقوا سماحته في حياتهم، فكان الوفاء أن يرافقوه في شهادته. وتحدّث أيضاً عن نصب سارية(1) لتحمل راية الإمام الحسين عليه السلام التي قُدّمت هديّة للمرقد الشريف من العتبة الحسينيّة المباركة.

 

 

تبقى هذه الزيارة نبراساً ينير دروب المحبّين، وذكرى خالدة تجدّد في النفوس عهود الوفاء والإخلاص. فكلّما رجعنا إلى ذلك المكان الطاهر، تزداد أرواحنا اشتياقاً وتتجدّد إرادتنا للسير على نهج العظماء.

شاهد أيضاً

نذرٌ أثمر شرحاً – شــــرح نهــــج البلاغـــة للسيّد هاشم صفيّ الدين

كان على سماحة الشهيد هاشم صفي الدين (رضوان الله عليه) أن يفي بنذر عظيم قطعه …