أخبار عاجلة

السيد الشهيد هاشم صفي الدين… ذاك الكبير

*يجب الاعتراف للسيد صفي الدين انه صاحب الجهد النظري والعملي الأول الذي أسّس بمثابرة ونفس طويل ومركّز لصناعة جيل ثان وثالث ذي استعدادات ومتانة وأصالة قادر بعد حين أن يأخذ بمسيرة حزب الله بقوة ويدفع بها قدُماً…

 

 

 

د. بلال اللقيس

 

 

قلة هم أولئك الذين عرفوه جيداً من خارج البيئة حتى حين متأخر… لكنّ كلّ من عرفه استشعر مكانته وأخِذ بالسرّ الذي يلفّه والهيبة الأخاذة! ربما كان هو السبب، فتأدباً وتواضعاً، لم يكن السيد ليرغب أن يبرز أو أن تتوجه إليه البنان. جلّ همّه كان أن يكون السيد حسن هو الأصل والمحور ومحط أنظار الجميع ومحلّ انجذابهم الوحيد، المهمّ أن يذوب الجميع بالسيد حسن نصر الله، فنصر الله كان بكله للإسلام ومسيرة العدالة والإنسان. وعندما كان يوجّه إليه لوم أو نقد من هنا أو هناك على قرار حزبي أو أداء ما، كان يردّد بالقول: “مش مشكلة: المهمّ يبعدوا عن السيد” يقصد السيد حسن.

ضروري جداً الإطلالة على قدرات الرجل وسماته القيادية والموفقية التي رافقته. فهو كان يسير بالنفس لتهذيبها ويأنس بالعرفان، وكان يحيط بمسارَي العلوم الدينية والأكاديمية وكلّ جديد فيهما ولم يحُل عمله الشاق كرئيس للمجلس التنفيذي عن تمكّنه من إبداء رأي راجح في أية قضية. وقد يتفاجأ كثيرون بشمول ثقافته وغناها وتنوّعها وعمق مقارباته. كان السيد صفي الدين مُنظّراً من الطراز الرفيع ليس في جانب ثقافي أو ديني محدّد، ولو سنحت الظروف العملية لكان بإمكاننا تقديمه كمفكر إسلامي حركي مع أنه كان حريصاً أن يقدّم العمل والنهوض بالتكاليف المضنية والمتعبة المسندة اليه على رغباته وتفضيلاته وهواه (وكان أن طلب لمرات عدة من السيد الشهيد نصرالله ان يعفيه من مهمته ليتفرّغ هو للتبليغ والعطاء العلمي لكن الأخير كان يرفض الطلب ويؤكد له مكانته عنده كسند وعضد). كان السيد صفي الدين الرجل الأول الذي اضطلع بتعميق الرؤى لمختلف مسارات ورؤى ومستقبليات مسيرة حزب الله ومجتمع المقاومة في مختلف الجوانب والأبعاد، فقد أضفى رؤيته النافذة على الخطط العشرينية والثلاثينيات لمسيرة حزب الله ومجتمعه ولكثير من قوى التحرّر في عالمنا. حرص حرصاً شديداً على العلم والإبداع، فأوْلى اهتماماً كبيراً لهما ورعاية خاصة، فاعتبر انّ العلم والتعلّم الأكاديمي ليس شرطاً متمّماً بل شرط ضرورة للنصر ودأب لوضع مسارات تطويرية بدءاً من إعادة مفهمة التربية والمدرسة في مسيرتنا ومراكز البحث وصولاً للجامعة وما بعدها. لقد تجاوزت نظرته للعلم احتياجات المقاومة والمجتمع المقاوم المباشرة إلى الضرورات الحضارية، فالمسيرة الجهادية التي ننتمي إليها ميدان صناعة علم ومعرفة، وقوة حزب الله أنه أنتج قواعد ومعارف وقدم نموذجاً يمكن الإفادة منه للمجتمعات والقوى الأخرى، فكشف عن حقائق تتجاوز تعقيدات العلوم النووية والكوانتية والطبيعية لأنه في هذا النوع من العلم ينتصب الحاجز النفسي أمام الشعوب في طريقها إلى التحرّر وتراها كثيراً ما تقع في تبرير الضعف والعجز والانهزام أمام سطوة الهيمنة، فان تكشف حقيقة اننا قادرون ونستطيع ويمكننا ان ننتصر بل سننتصر فهذا أصعب تحديات شعوبنا في هذا الزمن وفي كلّ زمن. لذلك فإنّ العلم الذي تضخه مسيرة حزب الله هو من أشرف العلوم وأهمّها وهو العلم المؤسس لبقية صنوف العلم والتجارب والمحرك لها، وقد غادرنا وهو على اطمئنان انّ مجتمعات المقاومة صارت على يقين من أمرها انّ ما تختزنه من مدى وحيوية ثقافية سيمكنها من مواجهة كلّ التحديات والتغلب عليها. أما الإبداع فكان بالنسبة اليه ميزة حزب الله التي أتاحت قيامته منذ البدايات والرصاصات الأولى، والإبداع هنا ليس فعل فرد حتى لو بدأ مع أفراد حينها إنما هو إبداع جماعي يميّز مسيرة المقاومة، وكان يدأب لتعميق الروية والميزة الإبداعية وتسريتها كقيمة رئيسة في المسيرة. عاش نوعاً من القلق تجاه التأصيل الفكري والثقافي، فإحدى مخاطر ايّ حركة اجتماعية بل وإيمانية تكمن في الأصالة خصوصاً مع مرور الوقت وتوالي الأجيال والتحديات فما أكثر تلك التجارب التي بدأت بشيء وانتهت بخلافه! لم يكن بالنسبة اليه القديم هو الأصيل والأجيال الجديدة ليست كذلك بل كان يقدّم رؤية معيارية للأصالة تأخذ من الأوائل نَفَسهم وتحاول ضخها في شرايين الجسم ودمجها مع الوعي والعمق الذي يتميّز به الجيل الجديد لمجتمع المقاومة. انّ الأصالة بالنسبة ليست جموداً بل هي عين الحيوية لأنها اتصال بعين الحياة التي مثلها الأنبياء والأولياء مع عليّ، ليست كلمات ومصطلحات ومفاهيم نستضيفها في فينة وأخرى إنما معايشة وقناعة ذاتية وقوة نفس وغنى بالإسلام المحمدي وثقة بالمسيرة وارتباط بالولي لحدّ التماهي، فأن نحافظ على الأصالة يعني ان لا نضيع الهدف والغاية ولا نتجاوز المبادئ، وهذا لا يتحقق إلا بالاندماج بخط الولاية. الأصالة هي الضمانة ليس لارتباطها بما عند الله لا ما عند الناس فحسب ولا لتغييبها للأنا والائتمان على إرث مسيرتنا العظيم إنما هي أيضاً ضمانة الانفتاح السليم على الآخر وشرط التوالج الثقافي الآمن في بحر النسبية الضاربة وتدليس القيم واختلاط المفاهيم. وكانت الثقافة والتبليغ همّه الأول، فالمجتمع الذي يقوم لله ويسلم لله ويوالي الله تعالى هو منشودنا ومحط النظر. لا يعني ذاك أننا نريد إسقاط الدين عليه إسقاطاً فالدين لا يُسقط بل يُطلب او يدلّ عليه فيُعرف ويعاش، المهمّ تقديم النموذج أمام الناس وإراءة الطريق وكسر الأغلال والقيود النفسية والفكرية التي استحكمت على أمتنا قبل تلكم المادية لنتمكّن من الرؤية الصحيحة للأشياء. لذلك فحزب الله بالنسبة إليه هو مدرسة احتجاج وهو أكبر من ان يكون حزباً سياسياً او حركة معينة انه فعل تاريخي أراده الله تعالى في الأمة طالما استمرّ هو ايّ حزب الله مخلصاً لأهدافه ومبادئه الإنسانية بالنهوض بالعدل ودفع الظلم وخدمة الخلق دون مقابل او انتظار. وهنا كانت المقاومة فعلاً تاريخياً حضارياً أسّس لأكبر خدمة للناس والمستضعفين في القرون الأخيرة من خلال جهادها لمواجهة الهيمنة واستعادة الذات والتصدي لإرهاب “دولة إسرائيل” ومن خلفها. وكان يراقب بدقة ويهندس بالتفصيل مسألة تحوّل بيئة المقاومة إلى الإنتاج، هو يدرك المظالم التي عانتها هذه البيئة وإهمال الدولة وحصار العدو، لكنه في الأعوام الأخيرة كان يسهر على ذلك، فالمسألة بالنسبة اليه تتجاوز الإنتاج الثقافي فقد صار مطمئنا انّ الإنتاج الثقافي شقّ طريقه في مجتمع المقاومة دون عودة، لكننا بحاجة لإنجاز مسارات وثقافة تفضي إلى الإنتاج في ميدان الاقتصاد كما العلوم، ومضى وهو يحمل هذا الهمّ ويكرّس له من اهتمامه الكثير. لم يكن يتوقف معيار الجذب للمسيرة عنده بما يدخل من أفراد على المسيرة ويتناسب فقط بل أيضاً بما لا يخرج عن الإيمان والأخلاق والارتباط بالله والنبيين والآل فهو الوجه الآخر للمعيار الذي لا يجب ان يغيب عنا، فالمسيرة ملك الجميع وتستوعب الجميع وهي للكلّ وليس لفئة دون أخرى او شريحة او عمر او مستوى اجتماعي او علمي، والكل يفترض ان يعطي فيها بقدر، وهو ما أثبتته التجربة، فلم يمرّ على مجتمع في التاريخ الحديث هذا المستوى من الفهم والوعي والنضج السياسي والرغبة الشديدة بالمشاركة والإسهام في تعميق النهضة التي أحدثتها المقاومة في الأمة والاستمرار عليها والاستقامة. برع في التخطيط النظري والعملي لا سيما التخطيط للثروة البشرية والنهوض بها فقد كان يصرّ على القول إنّ لدى حزب الله بنية رديفة كاملة متكاملة وقادرة أن تقدّم جديداً وإضافة في النهوض العام للأمة والوطن؛ فلا خوف على حزب الله. حمل عقلاً تطويرياً في مختلف شؤون ومجالات العمل الحزبي او الحركي كما يحب ان يسمّيه لاعتقاده بأنّ مسيرة حزب الله لا يصحّ تأطيرها بإطار جامد ولا إسقاط مفاهيم دخيلة عليها، فهي لا تشبه بقية الأحزاب ولا تستورد أفكاراً ومفاهيم بل تنتج وهذا سر قوتها، هي مختلفة عن كثير ممن حولها في غاياتها ومنهج عملها وتطلعها وانتظارات أفرادها، هي مسيرة عطاء لا أخذ إنفاق لا اقتصاد، وسبق للخير لا استمهال، وإبداع جمعي لا فردي واتصال لا انقطاع. هي مسيرة من اجل الجميع كلّ بحسبه ونقوم بمشاركة الجميع كلّ بقدرته ورغبته. ولمعرفته بالزخم والاستعداد العالي والطاقة المجتمعية الهائلة في مجتمع المقاومة وحافزيتها العالية وإدراكه للساحة وتعقيداتها، كان كثيراً ما يردّد انه يدير الحزب بالفرامل بدل “البنزين”. طاقة حزب الله إقليمية ومجتمعه متوثب وطموح ويحمل قضية كبرى، لذلك المطلوب السير معه وبه بهدوء وتؤدّة ولو خسرنا نقاطاً تكتياً أحياناً لكن المهمّ المدى البعيد والاستراتيجيا. وكان بصدد كتابة رؤى نظرية في شؤونات إدارية وحركية وسياسية وثقافية وكان حريصاً لتقديم المدرسة الإدارية لحزب الله فتحدي الإدارة هو أكبر تحديات زماننا هذا، والذي تعاني منه الدول والمنظمات والأحزاب والتجارب الاجتماعية رغم تأكيده على فرادة حزب الله. عاش الشباب والأجيال وعايشهم وجالسهم اسبوعياً وليس فقط دورياً، فكان يمدّهم بتغذية سياسية روحية عرفانية وأصالة دينية، وكثير منهم كان لهم ملهماً فعشقوه وواثقوه وعاهدوه الالتزام والحب والولاء والاستقامة. لم يشق على الشباب ان يصارحوه ويطرحوا وينتقدوا ويسألوا هو كان يفتح لهم التجربة بكلها والقلب والعقل فيرون فيه السيد حسن نصر الله ويتعاطون معه كمرآة السيد نصر الله. وهنا يجب الاعتراف للسيد صفي الدين انه صاحب الجهد النظري والعملي الأول الذي أسّس بمثابرة ونفس طويل ومركز لصناعة جيل ثان وثالث ذي استعدادات ومتانة وأصالة قادر بعد حين ان يأخذ بمسيرة حزب الله بقوة ويدفع بها قدماً. كان يعيش همّ ربط كلّ شيء في وجود مجتمع المقاومة بالولاية والولي والفقاهة، إذ انّ الولاية هي السر الذي عبرنا به كلّ التحديات والضمانة التي لا غنى دونها ولا تقدّم او ترقّ بعيداً عنها وهي الدافع الأعمق في حياتنا وحركتنا، لذلك فالتعبّد بالولاية هو الأصل وليس فقط طاعة الولي. ومن هنا رأى ومن هذا المنظور انّ لمجتمع المقاومة استعدادات عالية جداً ولولاها لما استمرّ في جغرافيا لبنان لمئات السنين دون ان يتبدّل او تقتل فيه روحه الثورية ونزعة العدالة ورفض الظلم المركوزة في شخصيته، لذلك نظر ونظّر لمجتمعنا ومقاومته وكيف انه الأصل وصاحب الفضل بعد الله وكلّ ما نقوم به هو أنا نعبد الله بخدمة الناس ونتقرّب اليه بحمل همومهم وصناعة الأمل أمامهم. كانت تستفزه المواقع والاعتبارات والشأنيات التي تبتلى بها التجارب الحزبية، ودوماً ما كان يخشى من الإفراط في الأمور دون الاعتدال، فنحن حركة وجريان ولسنا حزباً وهرميات، فكان شديد الانتباه لهذه الأمور حتى لا يقع أحد في فخ الحزبية فتصبح منظوراً عند العاملين لأنها تصير مدخلاً للإعجاب بالذات والتجربة فتوقع في الجمود دون علم وتجعل بيننا وبين الآخرين حجاب خفي.

أما في بعض صفاته الشخصية طالما كان السيد صفي الدين يردّد انّ من يريد المناصب والمراتب والتعمشق على أكتاف المسيرة سرعان ما “سيفوش” كالسمك الميت على سطح الماء؛ دماء الشهداء ستلفظه والصدق والإخلاص المتأصّل في مسيرة المقاومة سيلفظانه قبل أيّ أمر آخر. تأثر بالسيد حسن واقتفى أثره كاقتفاء عليّ لنبي الله محمد صلوات الله عليه وآله (كالفصيل اثر أمه) لدرجة انه لم يعد يطيق الدنيا من بعد السيد كما ذكر في غير موضع. وكان يتحدث وكأنه يعرف لحظة شهادته، فمثلاً عندما كان الاخوة ينبّهونه من خطر امني معين كان يقول “مش وقتها” يقصد الشهادة، لكن الجميل في القصة انه نعى نفسه لبعض الاخوة مع اقتراب معركة “أولي البأس” وكان يصر عليهم ان يدعوا له بالشهادة خلال هذه الحرب، وأوصى في ذلك بعض زوار مرقد الإمام علي بن أبي طالب في النجف وألحّ عليهم إلحاحاً غريباً، وقد نالها.

تميّز بدقته وحسن استماعه وتدقيقه في القضايا وعدم تعجّله في استصدار الأحكام، فليس ممن يستعجل الحكم على الناس والعاملين، ومما كان محلّ إعجاب كثيرين بشخصه أنه لا يحب أن يمتدح او يُقال عنه أنه “فهيم” ولا ينتظر المداحين والمطرين والمدهنين، كان يقول ما يظنّ أنه يفيد الناس وليس ما يبرزه بعيون الناس. وتميّز بالكياسة والقدرة على الاستيعاب وقدرة التنقل بين النظري والعملي والاستراتيجي والتفصيلي والرؤى الشاملة والجزئيات اليومية، واحتواء الغير حتى لمن لا يتلاقى معهم في طريقة العمل داخل البيئة التنظيمية او في الخارج، فكان دوماً يقدّم الإيجابية ويراقب المعيار الشرعي والمصلحي للمسيرة على ايّ أمر آخر حتى مع أقرب الأقربين إليه.

أما رؤاه للبنان والدولة والسياسة والإقليم والصراع فإلى مقالات أخرى…

شاهد أيضاً

التعبئةُ…ثقافةُ حياة- مقابلة مع سماحة السيد هاشم صفي الدين

يقول سماحة الإمام الخامنئيّ دام ظله: “قد يكابد عالِم أو طالب علم عشرين عاماً أو …