الاستثمار في «سندات إسرائيل»: هكذا تموّل الرأسمالية حروبها

اعتمدت حكومة العدو، خلال 15 شهراً، على 7 مؤسسات مالية عالمية لتسويق سندات الدين التي أصدرتها بعد 7 أكتوبر 2023 لجمع 19.7 مليار دولار (أ ف ب)

 

مخطئ من يظنّ أن حكومة بنيامين نتنياهو تموّل حرب إبادة الفلسطينيين في قطاع غزة من الأموال التي صادق على صرفها الكونغرس لكيان العدو في ربيع 2024، وضخّتها حكومتا جو بايدن ودونالد ترامب حصراً. إذ تشير الأرقام إلى أن واشنطن موّلت تلك الحكومة خلال عام 2024 بحوالى 17.9 مليار دولار فقط – وهو ما يتجاوز مبلغ الـ3.8 مليارات دولار سنوياً، الذي أقرّه أوباما لمصلحة إسرائيل عام 2016 -، في حين ثمة مصدر آخر يساعد الكيان في تمويل حروبه، غير محكيّ عنه، وهو تجسيد حيّ لكيفية تمويل الرأسمالية حروب الإبادة بأموال الناس العاديين

 

يبيع كيان العدو ما يسمّيه «سندات الشتات»، منذ عام 1951، أي ما بعد تأسيسه بثلاث سنوات. لأكثر من 70 عاماً، وخاصة في أوقات الحروب، استخدم العدو «برنامج سندات إسرائيل» لدعوة الشتات اليهودي – في الولايات المتحدة وكندا وفي جميع أنحاء العالم – إلى تأمين سيولة مستدامة تضمن أمنه المالي من نواحٍ عدة. تطوّرت أهمية مبيعات تلك السندات بمرور الوقت، إذ مثّلت أداة دعم كبير للاقتصاد الإسرائيلي في السنوات الأولى للبرنامج، عندما اختفت أسواق الديون السيادية في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

 

ومع أن حكومة العدو وأذرع لوبياتها العالمية تحاول تصوير السندات وكأنها أصبحت تؤدّي وظيفة رمزية، من باب السماح لليهود في جميع أنحاء العالم بتطوير صلة مع الكيان عبر المساهمة بمبلغ متواضع في رفاهية دولة المستوطنين، إلا أن الأرقام بعد الطوفان أثبتت أن هذه الأداة أعانت بشكل كبير حكومة نتنياهو على تمويل حربها الإبادية على الفلسطينيين في قطاع غزة.

 

ربطاً بما نشرناه سابقاً في مقال «رأسمالية الإبادة: من «القدر المتجلّي» إلى غزة» المنشور في «الأخبار» بتاريخ 26 أيلول 2025 اعتمدت حكومة العدو، على مدى 15 شهراً، على سبع مؤسسات مالية عالمية لتسويق سندات الدين التي أصدرتها بعد 7 أكتوبر 2023، لجمع 19.7 مليار دولار؛ علماً أن أربعاً من هذه المؤسسات أميركية، وهي: «غولدمان ساكس»، «بنك أوف أميركا»، «سيتي غروب»، و«جي بي مورغان تشيس».

 

وإذ ضَمِن «غولدمان ساكس» بمفرده ما يقرب من 7 مليارات دولار لحكومة العدو، عبر جذب مستثمرين لشراء ما تُسمّى «سندات دولة إسرائيل»، فقد أدارت ما تُسمّى «شركة التطوير لإسرائيل – Development Corporation for Israel» _ التي تقول في موقعها على الإنترنت إن 75% من الذين يشترون «سندات دولة إسرائيل» هم من يهود الشتات، فيما الـ25% الباقون هم مستثمرون مؤسَّساتيون_ عملية تسويق السندات في الولايات المتحدة وأوروبا.

 

ومن بين الزبائن الأساسيين في هذا المجال، الأذرع الاستثمارية للولايات والمقاطعات والمدن الأميركية، التي توظّف أموال دافعي الضرائب وصناديق التقاعد والإعانة الاجتماعية لشراء سندات الدين الإسرائيلية. إذ إنه بين 7 تشرين الأول 2023 و18 نيسان 2024، أظهرت تقارير صحافية أن نحو ثلاثين ولاية ومقاطعة أميركية اشترت «سندات إسرائيل» بقيمة بلغت حوالى 1.7 مليار دولار، وذلك عبر «شركة التطوير لإسرائيل» ومنصّتها «Israel Bonds». أمّا أكبر مشترٍ، فكانت مقاطعة «بالم بيتش» في فلوريدا، التي تعجّ باليهود الصهاينة، واشترت نحو 700 مليون دولار من هذه السندات.

 

وكانت بدأت وكالات التصنيف الائتماني، مع اندلاع حرب «طوفان الأقصى»، تضفي شكوكاً متزايدة على قدرات حكومة العدو على تحمّل الأعباء المالية، والتزامها بالديون في سياق متزعزع؛ إذ عدّلت بعض الوكالات نظرتها المستقبلية إلى الكيان إلى «سلبية» تحسُّباً لتفاقم الإنفاق العسكري وتراجع الإيرادات. وفي نيسان 2024، خفّضت وكالة «S&P» تصنيف الكيان من «AA-» إلى «A+»، وفي تشرين الأول 2024، عادت «S&P» مرة ثانية لتخفّض التصنيف إلى «A»، مُبرّرةً القرار بمخاطر «التصعيد على الجبهات الشمالية تجاه لبنان وإيران، وما قد يسببه من تأثير سلبي في النمو والمالية العامة».

 

المؤسسات المسجَّلة على أنها لا تبغي الربح تشتري جزءاً من «سندات إسرائيل»

 

في المقابل، وكما فعلت سابقاً، خفّضت «Moody’s» تصنيف كيان العدو من «A2» إلى «Baa1»، مع الحفاظ على نظرة مستقبلية سلبية. والجدير ذكره، هنا، أن التصنيف الائتماني يلعب دوراً حاسماً في أيّ استثمار من هذا النوع، باعتبار أن قوانين الولايات والمقاطعات والمدن الأميركية تشترط تصنيفات معيّنة للسماح بشراء السندات.

 

على سبيل المثال لا الحصر، يخرق حكّام ولايتَي فلوريدا ونيفادا، منذ نيسان 2024، سياسات الشراء الخاصة بالولايتَين، التي تشترط أن تكون السندات بدرجة تصنيف عالية (AA- أو أعلى)، وهو ما يعني أن الأجندة السياسية هي التي تحكم عملية الاستثمار، بما يخالف المعايير المطلوبة في تصنيف الكيان الائتماني. على أن ولايات أخرى من مثل أوهايو، لويزيانا، جورجيا، وأوكلاهوما، قد تواجه المخاطر نفسها إذا ما استمرّ تدهور تصنيف الكيان؛ إذ قد يُطلب منها إلغاء هذه الاستثمارات أو إعادة تقييمها، أو تقديم مبرّرات مكتوبة لاحتفاظها بها.

 

وإلى جانب مخالفة سياسات الشراء، يُسّجل تجاوز للحجم المسموح بأن يُستَثمَر به لدى جهة واحدة، ضمن الضوابط والمعايير الثابتة لعملية الاستثمار في غالبية الولايات والمقاطعات؛ فمثلاً، في مقاطعة بالم بيتش تحديداً، استثمر المسؤولون نحو 16% من ميزانية استثمارات المقاطعة في «سندات إسرائيل»، وهو تجاوز لأقصى معدل قانوني (15%) في تلك المقاطعة، علماً أن الحدّ الأقصى هذا جرى رفعه سابقاً من 10% إلى 15%، خدمةً لمآرب شراء أكبر قدر ممكن من السندات، وبالتالي تأمين السيولة اللازمة لحكومة العدو لتستكمل حربها الإبادية في غزة.

 

المفارقة أن محامين يمثّلون دافعي الضرائب في «بالم بيتش» رفعوا دعوى قضائية ضدّ مسؤول مالي في المقاطعة، متّهمين إياه بخرق قوانين الاستثمار المحلية وبانتهاك السياسات التي تضع حدوداً لنسبة الاستثمار في كيان أجنبي واحد، لكن القضاء لم يتحرّك، فيما تستمرّ عملية تمويل الإبادة، حتى بما يخالف الضوابط التنظيمية، لا الأخلاقية.

 

على أن الأمر لا يقتصر على الأذرع الاستثمارية للولايات والمقاطعات والمدن الأميركية؛ فالمؤسسات المسجَّلة لدى وزارة الخزانة الأميركية على أنها لا تبغي الربح، تشتري جزءاً من «سندات إسرائيل» التي تطرحها حكومة العدو كل عام. وأظهر إحصاء سريع أجرته «الأخبار» أن مؤسسات «خيرية» أميركية اشترت ما يقرب من 121 مليون دولار من هذه السندات خلال عام 2024 فقط؛ علماً أن غالبية تلك المؤسسات تملكها عائلات يهودية أو هي عبارة عن أذرع لاتحادات وروابط يهودية، منها على سبيل المثال مدارس ومراكز ثقافية تشتري «سندات الإبادة» بسخاء.

 

إزاء ذلك، يبدو جديراً برافضي استمرار حرب الإبادة ومناصري القضية الفلسطينية في الولايات المتحدة أن لا يكتفوا بالتظاهر، وأن يتقصّوا أسماء مالكي هذه المؤسسات والمساهمين فيها، ويعرفوا ما يملكون من مصالح تجارية، حتى يستطيعوا التشهير بهم وتوعية الجمهور الأميركي بسهمهم في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

شاهد أيضاً

درس 7 أكتوبر

كتبت صحيفة “الأخبار”: كان محمود درويش يتندّر حول خطابات الراحل ياسر عرفات قائلاً: «جيد أن …