الديموغرافيا والقضية الفلسطينية منذ خمسينات القرن التاسع عشر حتى عام 1948

 

استوطن اليهود في فلسطين زمناً طويلاً قبل أن يطوّر تيودور هرتزل النظرية الصهيونية في كتابه “دولة اليهود” (1896). انحدر جزء صغير من يهود فلسطين من اليهود الذين نجوا من تدمير الهيكل الثاني خلال القرن الأول الميلادي، لكنّ معظمهم انحدر ممن تمّ إبعادهم أثناء حروب الاسترداد الإسبانيّة خلال القرن السادس عشر. في فلسطين، كان هناك سنة 1852 نحو 13 ألفاً من اليهود الفلسطينيين (حوالى 4 في المئة من السكان)، وتركّز معظمهم في مناطق القدس وعكا ونابلس . وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر، حصلت هجرة كبيرة من اليهود المغامرين، الذين اشتروا أراضٍ فلسطينية وتمكّنوا من النمو والتزايد بوتيرة أعلى من السكان الأصلانيّين، المسلمين والمسيحيين.

بين سنتي 1850 و1914، دُعِّمت ديموغرافيا المجتمع اليهودي في فلسطين بهجرة ما يربو على 84 ألفاً من اليهود (على رغم عدم استقرارهم جميعاً في فلسطين بشكل دائم). وبالإضافة إلى ذلك، عزّز النمو السكاني الطبيعي لليهود (بسبب معدّلَي الولادة المرتفع والوفيات المنخفض نسبياً) وجودَهم في فلسطين، وهي ميزة ديموغرافية كانت ومازالت من الأهمية بمكان، فهي تعوّض انخفاض الهجرة اليهودية إلى إسرائيل الحاصل منذ مطلع القرن الواحد والعشرين.

وفي مستهلّ الحرب العالمية الأولى ، غدت فلسطين موطناً لنحو 60 ألفاً من اليهود، منهم 39 ألفاً من حاملي الجنسية العثمانية، مقارنة بأكثر من 700 ألف من العثمانيين، الذين كانوا إمّا مسلمين أو مسيحيين.

كان الحضور اليهودي في فلسطين أصغر مما هو في العراق أو اليمن ، ولكنّه أكبر قليلاً ممّا كان عليه في سوريا ولبنان . وبينما كان للحرب تأثير كبير في ديموغرافيا اليهود الفلسطينيين، إلا أنّ هذه الخسارة كانت أقلّ بكثير من تلك التي تكبّدها السكان الفلسطينيون الآخرون، المسلمون أو المسيحيون.

شكَّل وعد بلفور (1917) صكّاً تأسيسياً جعل من الممكن لما مجموعه 60 ألفاً من يهود فلسطين العثمانية بالتزايد إلى أن وصل عددهم إلى 700 ألف إسرائيلي في الدولة الجديدة سنة 1948، أي بزيادة أكثر من أحد عشر ضعفاً، نتجت من الهجرة المكثفة أكثر ممّا نتجت من النمو الطبيعي لليهود. ففي الثلاثينات، تدفّق إلى فلسطين أولئك اليهود الذين تعرّضوا لاضطهاد ألمانيا النازية وأوروبا، والذين تمّ رفض استقبالهم في أماكن أخرى من أوروبا أو في أميركا، الأمر الذي أدخل إلى فلسطين ما يقرب من نصف مليون لاجئ.

وعلى رغم أنه لم تحصل في البداية أعمال طرد لفلسطينيين من وطنهم، إلا أنّ وصول أعداد كبيرة من المهاجرين خلق توتّراً شديداً أدّى في نهاية المطاف إلى طرد الفلسطينيين وترحيلهم في العام 1948.

وبلغت مقاومة الفلسطينيين مصادرةَ الانتداب البريطاني السلطة واستيلاء اليهود على الأراضي (ولو بالشراء، وفي بعض الأحيان بسعر مرتفع) ذروتها خلال فترتين: اضطرابات سنتي 1920- 1921، وإبّان الثورة الفلسطينية الكبرى بين سنتي 1936 و1939 على الأخص. ومع ذلك، لم تتمكّن الثورتان الأولى والثانية من الإطاحة بالانتداب البريطاني أو كبح جماح الهجرة اليهودية، التي كانت جزءاً لا يتجزأ من الانتداب، وبالتالي اتّخذ ردّ فعل الشعب الفلسطيني شكلين مختلفين: سياسياً بدايةً، وديموغرافياً في نهاية المطاف.

استطاع الانتداب البريطاني بفضل نظام إحصائي استثنائي وجديد في المنطقة، أن يجمع خلال أعوام معلومات حول عدد المواليد والوفيّات بين المجموعات السكانية الرئيسية في فلسطين. وكشفت الإحصاءات أنّ الزيادة الطبيعية للسكان الفلسطينيين، بغض النظر عن الدين وعلى رغم ارتفاع معدّل الوفيات، وصلت مستويات عالية وتجاوزت الزيادة الطبيعية لدى المهاجرين اليهود.

الإحصاءات البريطانية تلك كانت ذات أهمية خاصة، إذ بمقارنتها بمثيلاتها في الدول العربية المجاورة الأقلّ عرضة لتهديد الوجود الأجنبي، أظهرت أنّ الفلسطينيين خلال فترة الانتداب، سواء عن وعي أو غير وعي، كانوا يقاومون من خلال تكوين أسرٍ كبيرة، فقد كان معدّل المواليد لديهم الأعلى في العالم، وبقي كذلك باستمرار تقريباً. وتراوح معدّل المواليد بين أدنى مستوياته من 45 لكل 1000 في العام 1942 إلى أعلى مستوياته 60 لكلّ 1000 (في 1928 و1930)، أي بمعدّل 50 لكل ألف، أو نحو 9 أطفال لكل امرأة. وفي مقابل ذلك، كان معدّل الولادات المصرية حوالى 44 لكلّ ألف، وفي سوريا 40. وإذا كانت، منذ عهد الانتداب حتى اليوم، الأسلحةُ المستخدمة من مختلف الأطراف المشتركة في الصراع أكثر فأكثر تطوّراً، إلا أن السلاح “التقليدي”، سلاح النمو السكاني/ الديموغرافي، أو “انتقام المهد”، كان جلياّ جداً تحت الانتداب وما زال حتى يومنا هذا.

لقد تمّ طمس هذه الديموغرافيا الأسطورية للسكان الفلسطينيين بوحشية خلال بضعة أسابيع فقط من حرب عام 1948 ، بترحيل مئات الآلاف منهم -نحو 750 ألفاً–. ولم يبق في الكيان الإقليمي الجديد إلا 156 ألفاً أصبحوا “عرباً إسرائيليين”، مقابل حوالى 700 ألف يهودي في ذلك الوقت.

شاهد أيضاً

مطالب بـ”تشميسهم” عشائريا.. وزير زراعة الأردن لتجار خضار يصدرون لإسرائيل: “استحوا على حالكم شوي”

أبلغت الحكومة الأردنية رسميا وإعلاميا بأن صلاحياتها القانونية لا تسمح بالتدخل لـ”منع” تجار الخضراوات والفاكهة …