الحكم العثماني 1516–1917

في سنة 1516، تحركت الإمبراطورية العثمانية  – التي أسّسها رجال القبائل التركية في الأناضول  وأقاموا عاصمتهم في القسطنطينية على أنقاض الإمبراطورية البيزنطية – ضد حكم المماليك في بلاد الشام ، فهزمت قواتها جيوش المماليك واحتلت بلاد الشام، بما فيها فلسطين، لتبدأ بعدها حقبة امتدت أربعة قرون حَكَمَ خلالها العثمانيون فلسطين بلا انقطاع تقريباً، وتميّز حكمهم بإدماج النخب المحلية في شبكات سلطة الدولة (لاسيما من خلال نظام الضرائب)، وبتأسيس المؤسسات الدينية والخيرية ودعمها.

مثّلت السيادة على القدس أهمية خاصة لدى الإمبراطورية الإسلامية، التي سرعان ما باشرت تنفيذ مشاريع إعادة بناء أسوار المدينة وترميم قبة الصخرة (1537 – 1540). وفي الوقت ذاته، اعترف العثمانيون للمسيحيين واليهود بحقوقهم في الأماكن ذات الأهمية الدينية بالنسبة إليهم، فأداروا ترتيباً معقداً للامتيازات وحقوق الدخول إلى هذه الأماكن عبر ما سمّي بنظام “الستاتوكو “. واستندت الأنظمة والتفاهمات في هذا الشأن إلى ممارسات عرفية متراكمة، وتضمنت حقوقاً اعترف بها الحكام المسلمون السابقون ودعمتها قرارات المحاكم الإسلامية، إضافة إلى تعهّدات المسيحيين واليهود بالتقيد بالممارسات العرفية.

وعلى الرغم من الهدوء النسبي على صعيد الشؤون الدينية، كانت فلسطين من حين إلى آخر مسرحاً للصراعات السياسية، المحلية والإقليمية والدولية، فقد شهد مطلع القرن الثامن عشر على سبيل المثال، اندلاعَ ثورة محلية ضد حاكم القدس العثماني بسبب السياسات القمعية والضرائب عُرفت باسم تمرّد نقيب الأشراف ، وفي وقت لاحق من القرن الثامن عشر، أقام ظاهر العمر الزيداني  حكماً ذاتياً في منطقة الجليل ، كما قامت القوات الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت  سنة 1799، وبعد غزوها مصر ، باجتياح الساحل الفلسطيني واحتلال غزة ويافا وحيفا ، وحصار مدينة عكا  الذي كان مصيره الفشل، ثم اندلعت ثورة محلية أخرى بسبب الضرائب في القدس سنة 1825، قام العثمانيون بإخمادها قُبيل قيام إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا  حاكم مصر، باجتياح فلسطين من جهة الجنوب سنة 1831، لتظلّ فلسطين (وبلاد الشام الكبرى) خلال السنوات العشر التالية مسرحاً للصراع بين الإمبراطورية العثمانية والحاكم المصري المتمرد والفئات الفلسطينية المحلية، قبل أن يتمكن تحالف الإمبراطوريات العثمانية- البريطانية- الروسية- النمساوية من طرد الجيش المصري.

في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان لعدد من التطورات على الصعيدين الإقليمي والعالمي دور مؤثر في مسار الأحداث في فلسطين، وكان لثلاثة منها تأثير خاص، وهي: قيام العثمانيين بسلسلة من الإصلاحات الإدارية التي سعت بشكل أساسي إلى إعادة صوغ العلاقة بين الدولة ورعاياها، وتحولات دولية منحت قوى أوروبية نفوذاً متزايداً على الدولة العثمانية المتهالكة، وصعود الحركات القومية، بما في ذلك تنامي الصهيونية في أوروبا والقومية العربية والفلسطينية في الأقاليم العربية من الإمبراطورية العثمانية.

تميّزت سنة 1876 بوصول السلطان عبد الحميد الثاني  إلى الحكم، وبكونه بداية لمرحلة دستورية أولى أطلقها صدور “القانون الأساسي” العثماني، الذي سعى إلى إعادة تكوين العلاقة بين الدولة العثمانية ورعاياها، من خلال صوغ هوية سياسية عثمانية واحدة تطبَّق بالتساوي على جميع رعايا الإمبراطورية، كما تأسس البرلمان العثماني  وفقاً لهذا القانون، ومَثَّل مدينةَ القدس فيه يوسف ضياء الدين باشا الخالدي . ولكن بعد عامين فقط، أمر السلطان عبد الحميد بتعليق “القانون الأساسي”، منهياً بذلك المرحلة الدستورية الأولى، وليحكم بعدها كملك مطلق الصلاحية على مدى السنوات الثلاثين التالية، التي رعى خلالها بعض مشاريع التحديث الناجحة (مثل الإصلاحات البيروقراطية وإنشاء سجل السكان وتشييد سكة حديد الحجاز )، بينما كانت الإمبراطورية تفقد سيطرتها على العديد من المناطق (في أوروبا خصوصاً)، نتيجة ائتلافات بين حركات تحرر محلية وقوى خارجية.

ودفعت تلك الخسائرُ القوى الخارجية إلى استغلال الضعف النسبي الذي أصاب الإمبراطورية العثمانية وفرض تنازلات اقتصادية وسياسية عليها، من خلال اتفاقيات أعطت الرعايا الأجانب على الأراضي العثمانية وضعاً متميزاً، مثل إعفائهم من الضرائب والملاحقات القضائية المحلية على سبيل المثال. وعلى رغم أن الاتفاقيات هذه، والمعروفة بـ”الامتيازات الأجنبية”، كانت أُعدت منذ استيلاء العثمانيين على بلاد الشام، إلاّ أن ترنّح الإمبراطورية دفع القوى الأوروبية إلى توسيع امتيازاتها وإعطائها إلى وكلاء محليين، فاستغلت الحركة الصهيونية ومؤيدوها الأوروبيون هذا الوضع الجديد من أجل تشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين، على الرغم من المعارضة المحلية لذلك.

لم تكن فلسطين تمثّل وحدة إدارية في تلك الفترة، وكانت التسمية (“فلسطين”) تُستخدم لوصف منطقة جغرافية، وبعد عمليات إعادة التنظيم الإداري في السبعينيات والثمانينيات من القرن التاسع عشر، تم تقسيم المنطقة التي عُرفت لاحقاً باسم “فلسطين الانتدابية ” الى ثلاث وحدات إدارية: سنجق القدس ، وتتم إدارته من الآستانة مباشرة، وسنجقا نابلس وعكا  في الشمال، ويرتبطان إدارياً بـولاية بيروت . وتشير السجلات العثمانية إلى أن عدد سكان هذه السناجق الثلاثة بلغ 462,465 نسمة سنة 1878، منهم 403,795 مسلماً و43,659 مسيحياً و15,011 يهودياً (لا تشمل الأرقام حوالى 10,000 يهودي كانوا يحملون جنسيات أجنبية، وعدة آلاف من البدو أو الأجانب الذين أقاموا في فلسطين). كانت يافا ونابلس أكبر المدن الفلسطينية وأكثرها حيوية اقتصادياً، في حين أن معظم اليهود في فلسطين –مع ملاحظة أن اليهود الأرثوذكس كانوا يتعاملون بشكل محدود جداً مع الصهيونية- عاشوا في أربع مدن ذات أهمية دينية، وهي: القدس والخليل وصفد وطبريا .

كانت الصهيونية في ذلك الحين تتبلور في أوروبا، وعلى وجه الخصوص في أوروبا الشرقية . كان المفكرون الصهاينة، المدفوعون بالمد الكولونيالي خارج أوروبا، والذين كانت تحركهم التيارات الأيديولوجية القومية والظروف القمعية التي يتعرض لها اليهود الأوروبيون، يبحثون عن أرض يمكن الاستيلاء عليها لإقامة دولة يهودية ذات سيادة تمثل إنجازاً قومياً ووسيلة للخلاص، فبدت فلسطين لهم المكان المنطقي الأمثل، لأنها مكان نشوء اليهودية، على رغم أن بعض المفكرين الصهاينة الأوائل أرادوا الأخذ بعين الاعتبار مواقع بديلة.

تأسست أول مستعمرة في فلسطين سنة 1878، ووصلت الموجة الأولى من المهاجرين الصهاينة سنة 1882. وقد قام الثريّان اليهوديان الأوروبيان، البارون إدموند دي روتشيلد  والبارون موريس دي هيرش ، بتمويل أنشطة الاستيطان الأولى، في حين نشر اليهودي المجري تيودور هرتزل ، كتاب “الدولة اليهودية”، وهو أطروحة تضمّ الأفكار الصهيونية السائدة وتضع برنامجاً لتنفيذها. دعا هرتزل إلى عقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل – سويسرا  سنة 1897، وأسّس المنظمة الصهيونية ، وهي الإطار المؤسساتي للدبلوماسية الصهيونية والنشاطات اللاحقة، كما أقيم الصندوق القومي اليهودي  سنة 1901، من أجل الحصول على أراض فلسطينية لإقامة المزيد من المستعمرات اليهودية. وبحلول سنة 1914، كانت هناك حوالى ثلاثين مستعمرة صهيونية، وبلغ عدد اليهود في فلسطين  حوالى ستين ألفاً، أكثر من نصفهم من المهاجرين الوافدين حديثاً.

في ذلك الوقت، كانت المشاعر القومية العربية والفلسطينية تتنامى في فلسطين، بالتزامن مع تزايد معاداة الصهيونية. وكثيراً ما كانت تندلع نزاعات فلسطينية – صهيونية بشأن ملكية الأراضي أو استئجارها. وفي سنة 1908، أدّت “ثورة تركيا الفتاة ” إلى إعادة الدستور، وبشّرت بعهد الحريات الصحافية، وتم انتخاب مندوبين من القدس ويافا ونابلس وعكا وغزة إلى البرلمان العثماني المعاد تشكيله سنتي 1908 و1912، وازدهرت صحافة فلسطينية تعبّر عن القلق المتزايد إزاء المطامع الصهيونية في فلسطين، وتُفْرِد المساحة لرؤى متعددة ولتعبير قومي عربي أو عثماني أو سوري (نسبة إلى سوريا الكبرى) أو فلسطيني. وأدى اندلاع الحرب العالمية الأولى واحتلال القوات البريطانية فلسطين، إلى تقليص الإمكانات التي توخاها الفلسطينيون، وإلى انتزاع حقهم في التحكم بمستقبلهم السياسي، مع ظهور وعد بلفور الذي أكد أن المشروع الصهيوني سيمضي قدماً ضد إرادة السكان الفلسطينيين الأصليين.

أليكس ويندر

شاهد أيضاً

مطالب بـ”تشميسهم” عشائريا.. وزير زراعة الأردن لتجار خضار يصدرون لإسرائيل: “استحوا على حالكم شوي”

أبلغت الحكومة الأردنية رسميا وإعلاميا بأن صلاحياتها القانونية لا تسمح بالتدخل لـ”منع” تجار الخضراوات والفاكهة …