سنية الحسيني
ظهرت خلافات واضحة بين أقطاب في مؤسسة الحكم في دولة الاحتلال، خلال فترة العدوان على غزة، كما ثار غضب شعبي على حكومة الحرب التي تشكلت في أعقاب ذلك الهجوم، رغم حظر التظاهرات والاحتجاجات خلال هذه الفترة. ويبدو التناقض جلياً بين مواقف الحكومتين الأميركية والإسرائيلية تجاه حيثيات العدوان الحالي على غزة وتفاصيله والرؤى تجاه اليوم التالي على انتهائه، رغم عدم اختلافهما حول الهدف. فإلى أي مدى ستؤثر تلك الخلافات، بين أقطاب صنع القرار في حكومة الاحتلال والتناقضات بينها وبين الإدارة الأميركية، على توجهات انتهاء الحرب على غزة، في ظل وصول أعداد الضحايا من الأبرياء الفلسطينيين وحالة الدمار للقطاع ومرافقه مستوى غير مشهود، وعلى مستقبل عملية السلام مع الفلسطينيين بشكل عام؟
تظهر الخلافات جليه بين أقطاب حكومة الطوارئ، التي تشكلت من قبل الأنداد، في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر. فلم تختف تماماً الأزمة بين نتنياهو ويوآف غالانت وزير الحرب، التي نشبت بينهما قبل أشهر، على خلفية الاحتجاجات على التعديلات القضائية، والتراجع عن قرار الإقالة بعد ذلك. كما تبقى خلافات نتنياهو وغانتس غير خفية، فبرزت قبيل اقرار موازنة الحكومة، وفي هجوم غانتس على نتنياهو عندما حمل رئيس أركان الجيش ورئيس المخابرات العسكرية ورئيس الشاباك مسؤولية الفشل في صد هجوم حركة حماس في السابع من اكتوبر. وغضب هيرتسي هاليفي رئيس أركان الجيش الإسرائيلي يوم الإثنين الماضي بعد تعرضه للتفتيش من قبل حراس من مكتب نتنياهو قبيل اجتماع مجلس الوزراء الحربي. واستقال رئيس شعبة ترخيص الاسلحة النارية، على خلفية أوامر بن غفير بتوزيع السلاح، معتبراً أنها توزع دون معايير. واتهم يائير لابيد زعيم المعارضة الإسرائيلية نتنياهو، بالمسؤولية عما حصل في غلاف غزة، ويطالبه بالتنحي.
كما استمرت التوترات في الشارع الإسرائيلي، خلال الشهرين الماضيين، والتي قادها أهالي المحتجزين الإسرائيليين لدى حركة حماس للمطالبة باستعادة أبنائهم، وباستقالة نتنياهو. كما يوجه المستوطنون في غلاف غزة والشمال، بعد نقلهم من المستوطنات، اللوم لحكومة نتنياهو ويتهمونها بالتقصير في حمايتهم، وعدم توفير الأمان لهم. ورغم ذلك، يتحد الأنداد في هذا الهجوم، رغم الخلافات، كما لم يتراجع الدعم الشعبي للهجوم على غزة الذي يطالب بالقضاء على حركة حماس، على الرغم من ضغطه لإطلاق سراح المحتجزين.
ويميل المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين، خصوصاً فيما يتعلق بالحل السلمي مع الفلسطينيين. في العام ١٩٨١ دعم ٣٦% من الإسرائيليين أحزاباً يمينية، وبعد عشر سنوات صنف نصف اليهود في إسرائيل انفسهم كيمينيين، ولم تتبدل هذه النسبة بعد توقيع الحكومة الاسرائيلية بقيادة اسحاق رابين اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير. وجاء المجتمع الإسرائيلي بـنتنياهو رئيساً للوزراء، بعد اغتيال رابين. ورغم وصول ايهود باراك الذي يوصف كيساري في نهاية التسعينيات من القرن الماضي إلى سدة الحكم، حيث ارتفعت شعبية اليسار قليلا في ذلك الوقت، في ظل بقاء ميل المجتمع الإسرائيلي عموماً نحو اليمين. ورفض باراك الانتقال إلى المرحلة التالية من اتفاق أوسلو، للتفاوض حول قضايا الحل النهائي مع الفلسطينيين، واضعاً بذلك ارهاصات لانفجار الانتفاضة الثانية. ومنذ تلك الانتفاضة وينجرف المجتمع الإسرائيلي انزلاقاً بشدة نحو اليمين، فيعرف ثلثا الاسرائيليين أنفسهم اليوم كيمينيين، وأخرج المجتمع الانتخابي الإسرائيلي العام الماضي الحكومة الأشد يمينية وتطرفاً في تاريخه.
ورغم تراجع شعبية الائتلاف اليميني الحاكم بقيادة نتنياهو بشكل متدرج، بدأ مع صعوده للحكم أواخر العام الماضي، بعد إعلانه مباشرة عن الإصلاحات القضائية التي أججت الاحتجاجات الشعبية على مدار ٤٠ أسبوعاً متتالياً اعتُبرت الأطول في تاريخ إسرائيل، وانتهاءً بالهجوم على غزة، حيث توجه لحكومة نتنياهو أصابع الاتهام بالتقصير الأمني والعسكري، وباستثارة غضب الفلسطينيين، نتيجة لسياساتها المتطرفة تجاههم في الضفة الغربية. وتشير استطلاعات الرأي إلى خسارة نتنياهو لشعبيته كرئيس للوزراء، ويعتقد ثلاثة أرباع الإسرائيليين أن على نتنياهو الاستقالة، كما تراجعت مكانة الكتلة الحاكمة وسُجل تراجعٌ في تأييد الليكود، والأحزاب اليمينية المتطرفة. وتعطي الأغلبية اليوم ثقتها لـغانتس، الذي يحصد حزبُه الذي ينتمي ليمين الوسط، ويضم العديد من أعضاء حزب الليكود السابقين، حسب استطلاعات الرأي، أكثر من ضِعف مقاعد الكنيست التي يحصدها الليكود. الا أن غانتس لا يدعم حل الدولتين، ويرفض صراحة فكرة دولتين لشعبين. ويصر نتنياهو على استكمال هجومه على غزة، في ظل تراجع مكانته وحزبه وتحالفه شعبياً، الأمر الذي يجعل مستقبله الانتخابي على المحك، خصوصا وأن العدوان لم يحقق أهدافه، وقد يكلفه التراجع خسارة حلفائه في الحكومة أيضاً.
ورغم التصريحات الأميركية الإسرائيلية المتناقضة حول الهجوم الإسرائيلي على غزة، إلا أن ذلك لا ينفي الشراكة بين البلدين في هذا العدوان. منذ بداية الحرب تبنت الإدارة الأميركية دعوات حكومة الاحتلال بخروج الفلسطينيين إلى سيناء، قبل أن تتراجع عن تصريحاتها المعلنة تحت وطأة الرفض العربي. الا أن هناك مشروعًا متداولًا في الكونغرس الأميركي يبحث عملية التهجير تلك. ولم تلتزم حكومة الاحتلال بنصيحة الولايات المتحدة بتجنب استهداف المدنيين، وبعد انتهاء الهدنة، وبدء الهجوم تجاه خان يونس، باتت الولايات المتحدة تعتبر انه لا يوجد شواهد على تعمد إسرائيل استهداف المدنيين. كما وضعت الولايات المتحدة مطلع الشهر القادم موعداً لنهاية الهجوم، الا أن غالانت يؤكد استمراره لأشهر. ورغم اعتبار أنتوني بلينكن وزير الخارجية أن السلطة الفلسطينية يجب أن تدير القطاع بعد انتهاء الهجوم على غزة، يرفض نتنياهو ذلك تجنباً لإنشاء دولة فلسطينية. فمن ستسود رؤيته في النهاية؟
ولم تغير الولايات المتحدة من شراكتها ودعمها اللامحدود لإسرائيل في الحروب التي خاضتها، بعد أن انتقلت عملية احتضانها من بريطانيا اليها في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وساندت الولايات المتحدة إسرائيل في حرب عام ١٩٦٧ و١٩٧٣ و١٩٨٢. كما ساهمت بتقليص خيارات منظمة التحرير وفصائلها، وتوجيهها نحو الخيار السلمي، الذي ترجم من خلال مؤتمر مدريد، ثم اتفاق أوسلو. واصلت الولايات المتحدة في خطاب أجوف التأكيد على ضرورة حل الدولتين، وانتقدت سياسة الاستيطان، في تناقض مع سياسة فعلية دعمت ممارسات الاحتلال في الأراضي المحتلة في المحافل الدولية، ووقفت ضد صدور أي قرار لإدانتها في مجلس الأمن، ولم تحرك ساكناً أمام سياسات اسرائيل الاستيطانية الزاحفة لتغيير بنية الأراضي الفلسطينية المحتلة جغرافيا وديموغرافيا، وواصلت سياسة تقديم المساعدات الاقتصادية للفلسطينيين من ناحية، واستخدامها في المساومة لتقويض أي انجاز سياسي من ناحية أخرى.
تتعامل الحكومات الإسرائيلية مع الفلسطينيين منذ احتلالها للأراضي الفلسطينية عام ١٩٦٧ من منظور أمني لا سياسي، وحتى اتفاق أوسلو جاء في مضمونه لاعتبارات أمنية، فهمش الجانب السياسي منه منذ البداية، وتم المحافظة على مكنونه الأمني. وكشفت الأيام أن المضمون السياسي الذي ينشد حل الدولتين لأي اتفاق مع الفلسطيني غير موجود. وتواصل قوات الاحتلال في هجومها على غزة ارتكاب أكبر عدد ممكن من المجازر، وتدمير ضخم للبيوت والمدارس والجامعات والأسواق والبنية التحتية، بدعوى تدمير حركة حماس، في منطقة جغرافية محدودة، ومكتظة جداً بالسكان المدنيين، ودون توفير مناطق آمنة، أو السماح بإدخال المواد الطبية والغذائية الكافية للمدنيين، أو حتى السماح بتدخل منظمات دولية إنسانية لإغاثتهم، الأمر الذي يعكس حقيقة هذه العملية، التي تسعى لقتل أي مظهر للحياة في غزة لمنع عودة المدنيين، الذين ترهبهم بالمجازر المتتالية دون توقف، الأمر الذي يدعم بوضوح مخطط التهجير القسري. وتتناقض تصريحات بايدن بالقضاء على حركة حماس تماماً مع دعواته لحماية المدنيين، في ظل واقع على الأرض يعكس عكس ذلك.
في الختام يبدو جلياً أن الفلسطينيين أمام مجتمع إسرائيلي يميني في توجهاته لا ينشد حلاً سلمياً مع الفلسطينيين ولا يفرز إلا حكومات تتنافس على حرمان الفلسطينيين من حقوقهم التاريخية والقانونية والإنسانية، وأمام نظام أميركي يتبنى مصلحة إسرائيل، بغض النظر عن أية تصريحات سياسية جوفاء فارغة تفيد بغير ذلك. وأثبت هجوم حركة حماس على غلاف غزة أن القوة الوحيدة التي تمتلكها إسرائيل وتسمح لها بالبقاء هي الدعم الاميركي الغربي لها، والذي يعمل منذ عقود على فرضها في المنطقة كقوة سياسية واقتصادية، واقناع الدول ومساومة الحكومات لتحقيق ذاك الهدف. إن ذلك يوجب على الفلسطينيين اليوم التوحد والوقوف صفاً واحداً، بعيدا عن الانتقادات والجدال العقيم، في هذه اللحظات العصيبة، للتصدي لهذا الهجوم غير المسبوق على غزة، لأن خروج غزة من المعادلة السياسية الفلسطينية سيفقدها التوازن. إن سياسة الولايات المتحدة تجاه دول المنطقة تثبت أنها طالما تخلت عن حلفائها دولاً وأنظمة في سبيل مصالحها، ومصالح حليفتها، التي تعد مصدر اضطراب وعدم استقرار في المنطقة. كما أن نوايا ومشاعر إسرائيل تجاه الفلسطينيين، والتي يراها العالم على شاشات التلفزة في غزة والضفة الغربية ولبنان وسورية، تعكس ذات المشاعر تجاه باقي العرب والمسلمين.