طلال عوكل
◼️ حين تتّخذ الحرب أهدافاً، ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية، المدفوعة بكراهية الآخر، وبروح الانتقام، تختفي الكثير من المشاهد، لتترك المجال للمشهد العام الذي يتّصل بتقييم لمجريات الحرب ومآلاتها العامّة من وجهة نظر الأطراف التي تخوضها.
تختفي الأهداف الكبرى خلف ادّعاءات كاذبة، حتى أصبح من يطلقون هذه الادّعاءات لا يصدّقونها، بعد أن انفضحت أمام الرأي العام العالمي بأبشع الصور، ووفق أبسط المعايير.
كانت الحرب في أوكرانيا مثالاً فجّاً على سقوط منظومة القيم الكاذبة والفاسدة، التي اختفت وراءها حملات الغزو الاستعمارية، واتّضح أنّ مدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية، لم يعودوا يهتمُّون لانكسار ميزان العدل لصالح سياسات تقوم على ازدواجية المعايير.
يتكرّر الدرس على صورة أشدّ وضوحاً، وأوسع انتشاراً وتأثيراً، خلال الحرب على الشعب الفلسطيني في نسختها الراهنة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل المنصرم.
منذ اللحظة الأولى للحرب، أطلقت الولايات المتحدة، وحلفاؤها «الغربيون»، الذين احتشدوا خلف الحرب في أوكرانيا لتركيع روسيا، شعار حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.
في كلّ العدوانات السابقة على قطاع غزة، وعلى القدس والضفة الغربية، كان هذا الشعار يتصدّر الموقف الأميركي و»الغربي»، ولم يذكر هؤلاء ولا مرّة واحدة، شيئاً عن حق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن نفسه وحقوقه، التي يعترف هؤلاء بها.
يسقط هذا الشعار مرّات ومرّات، ولكن يظلّ الذريعة لإخفاء الأهداف الاستعمارية الحقيقية التي تقف خلف هذه الشراكة بين الاستعمار وأدواته.
يسقط هذا الشعار المضلّل حين يتحوّل مبدأ الدفاع عن النفس إلى حرب إبادة بشعة، مدفوعة بالانتقام، وكراهية الآخر، وقتل كلّ مظاهر وعوامل الحياة البشرية. للحرب الاستعمارية أهدافها التي روّج لها هؤلاء، وفي أصل الأهداف الإجهاز على القضية الفلسطينية وتهجير وتشتيت الشعب الفلسطيني.
ما يتطابق مع الأهداف التي وقفت خلف تأسيس المشروع الصهيوني الأوّل، وصولاً إلى إعادة هيكلة الشرق الأوسط بما ينسجم وضرورة تكريس الانقسامات، وزرع الفتن، من أجل الهيمنة على مقدّرات هذه المنطقة.
مجريات الحرب، بكلّ قسوتها، وبشاعتها وبكل القوة والقوى التي انخرطت فيها إلى جانب دولة الاحتلال، قالت بالفم الملآن، إن هؤلاء فشلوا حتى الآن والأرجح أنّهم سيفشلون في تحقيق هذه الأهداف.
ثمة من يعتقد أنّ الحرب مستمرّة، وأنّ إسرائيل تواصل ما دأبت عليه من أجل تحقيق هدف تهجير سكّان قطاع غزة قسرياً إلى سيناء المصرية، ثمّ «تواضع» هؤلاء، فأصبح الهدف «تهجيراً جزئياً، و»تقليل عدد سكّان القطاع، وتقليل مساحته الجغرافية».
الوقائع على الأرض تقول غير ذلك، فمصر لا تزال عند موقفها من التهجير، والفلسطينيون يتمسّكون بالبقاء في بيوتهم، أو ما تبقّى منها، ومتمسّكون في البقاء في الخِيَم التي أقاموها على عجَل في أماكن يعتقدون أنّها أكثر أمناً بالمعنى النسبي، وسط جحيم لا يترك مساحة صغيرة آمنة.
السلوك الميداني لجيش الاحتلال الإسرائيلي خلال مجريات الحرب، أثبت أنّ من يديرون الحرب من جو بايدن إلى بنيامين نتنياهو، يتمتعون بغباء شديد، حتى إزاء كيفية التعامل مع الأهداف التي أرادوا تحقيقها.
بعد جولاتٍ طويلة ومتكرّرة من المواقف والقرارات المتبدّلة، والتي تعكس الفشل الذريع، والغباء المطلق، يصبح الهدف الرئيسي مكشوفاً، بالرغم من عمليات التضليل المكثّفة، التي تديرها، أجهزة الحرب.
القضاء على «حماس» يتحوّل إلى تفكيك بنيتها، وتحقيق الأمن لمستوطني «غلاف غزّة»، يتحوّل إلى مجرّد «شريط أمني» على طول الحدود الشرقية والشمالية للقطاع.
تحرير الأسرى الإسرائيليين من الجنود بالقوّة، يتحوّل إلى هدف رئيسي، لا يمكن تحقيقه إلّا عَبر التفاوض بعد الفشل في سحق «حماس» والمقاومة، تفكّر إسرائيل في ضخّ مياه البحر في الأنفاق، كمحاولة أخيرة لتحقيق الهدف، بغضّ النظر عن نتائج وتأثيرات ذلك على الخزّان المائي، بما يلحق الضرر، أيضاً، بإسرائيل.
شخصياً أعتقد أنّ الخطّة الإسرائيلية الأساسية، كانت تقوم على تهجير كلّ سكان مدينة غزّة وشمالها نحو الجنوب، بهدف استخدام أسلحة مُحرّمة دولياً للقضاء على المقاومة في أنفاقها.
فشلت خطّة التهجير والاستفراد بالمقاومة، وفشلت الوسائل، واستبدلت باستخدام قذائف مدمّرة للأنفاق، وحين فشلت في ذلك تحوّلت للتفكير باستخدام مياه البحر، ولكن هذه الوسيلة، أيضاً، غير مضمونة التحقُّق.
يتبقّى لإسرائيل وحلفائها، الذين تجنّدوا، وجنّدوا وسائلهم الاستخبارية، وآخرهم بريطانيا، للكشف عن مكان وجود الأسرى من جيش الاحتلال، وكشف ماهية وخرائط الأنفاق، يتبقّى لهؤلاء مواصلة الحرب على الحياة البشرية.
لا نتحدّث عن المجازر التي يتجاوز عددها الألف وخمسمائة مجزرة، واستهدفت المدارس، والمستشفيات، والأبراج السكنية، والمساجد، وأماكن الإيواء وإنّما نتحدّث عن أبعاد ذلك وتفاصيله.
تعمل القوات الغازية على إعدام كلّ وسائل الحياة حين تتوقّف الحرب، لا بيوت، أو حتى خيام، ولا الحدّ الأدنى من إمكانيات الطبابة، ولا مدارس أو رياض أطفال، ولا زراعة، أو صناعة، ولا الحدّ الأدنى من الغذاء والدواء، ولا كهرباء، أو وسائل التواصل. فقط ما يتبقّى من البشر، بعد إبادة عشرات الآلاف منهم، وبالتالي تعريض حياة أكثر من مليوني إنسان للإبادة عَبر إبادة وسائل الحياة بأبسط متطلّباتها.
ستقف الحرب، بينما البُنية التحتية مدمّرة، والشوارع، وتدمير وسائل إدارة شؤون الناس، بما في ذلك المياه الصالحة للشرب، أو حتى الاستحمام.
إسرائيل تستخدم أسلحة محرّمة دولياً، لتسميم هواء غزة، وأرضها، ما فوقها وما تحتها.. حتى الأسماك، لم تعد متوفّرة، فلقد دمّرت إسرائيل ميناء الصيّادين ومراكبهم وشِباكهم، بعد أن استهدفتهم بالمجازر التي أدّت إلى استشهاد الآلاف منهم.
في التفاصيل، أيضاً، عشرات آلاف القصص الإنسانية المؤلمة، من تشتُّت العائلات، وانقسامها، واستشهاد أفراد منها، وتهديد حياة المتبقّين وأغلبهم من الأطفال، بالضياع والتشتّت.. وفق كلّ ذلك، ما ينجم عن تعفّن آلاف الجثث تحت الركام، دون توفّر الحدّ الأدنى من الآليات والطواقم القادرة على سحبها ودفنها.
تعتقد العصابة المجرمة، التي تدير الحرب، أنّها بذلك، ستضمن الأمن والاستقرار لمستوطنيها في «الغلاف»، وستضمن الأمن لإسرائيل لفترة أطول. لكن هؤلاء يعجزون عن قراءة الإنسان الفلسطيني.
حرب الإبادة التي تشنُّها إسرائيل ومن معها، لا يُدركون أنّ آثارها من شأنها أن تخلق جيلاً فلسطينياً، هو الأشدّ تطرُّفاً في عدائه للاستعمار «الغربي»، وأداته العنصرية الفاشية.
مرّة أخرى يطيح الشعب الفلسطيني بمقولة بن غوريون الذي قال يوماً «إنّ الكبار يموتون والصغار ينسون».. ويفشل هؤلاء في قراءة مميّزات الفلسطيني، المصمّم على البقاء، واسترداد حقوقه، فلقد علّمته تجربة الحرب الجارية كيف يتغلّب على صعوبات الحياة تحت القصف والتدمير، وانعدام وسائل الحياة، في غزة، تغلّب الناس على ندرة كلّ وسائل الحياة من الكهرباء والغاز، والطعام والدواء، والبيت، والماء، حتى أصبحت لديهم مناعة كافية للبقاء ومعاودة بناء الحياة.
لن تنجو إسرائيل بنفسها ولن ينجو داعموها أجانب كانوا أم عرباً، ومسلمين، من غضب الشعب الفلسطيني، فهو قد أثبت مئات المرّات أنّه شعب استثنائي.