طوني عيسى – الجمهورية
يدرك بنيامين نتنياهو أنّ مستوى الضغوط التي تمارسها عليه واشنطن لوقف القتال في غزة سيبقى محدوداً. ولذلك، هو أطلق العنان لمشروع يطمح إلى إنجاز مرحلته الأولى في نهايات العام 2024، مع اختتام ولاية الرئيس جو بايدن، ما سيؤدي إلى فرض وقائع جديدة في غزة، وعلى الأرجح في الضفة أيضاً.
الحدود التي يبلغها اعتراض أي إدارة أميركية على قصف المدنيين وتدمير المدن معروفة ومجرّبة، سواءً كان سيد «البيت الأبيض» جمهورياً أو ديموقراطياً. وأبرز النماذج أنّ إدارة الرئيس السابق باراك أوباما بقيت تعترض على سقوط أعداد كبيرة من المدنيين في الحرب السورية، واتهمت نظام الرئيس بشار الأسد باستخدام أسلحة مواد كيميائية في هذا المجال، لكنها لم تتخذ أي إجراء عملاني يوقف ذلك. وعلى العكس، أطلق أوباما نهج الانسحاب من الشرق الأوسط، وترك سكانه يتدبّرون أمورهم بأنفسهم.
وفي الأراضي الفلسطينية، استخدم الإسرائيليون نهج التدمير والتهجير طوال عقود، لكن الولايات المتحدة لم تمنعهم. وما يقومون به اليوم في غزة هو في الواقع تمادٍ في النهج المعتمد سابقاً، ولا يفاجئ واشنطن في أي حال.
عندما تلقّت إسرائيل صدمة 7 تشرين الأول، بما فيها من خسائر بشرية وصفعة معنوية، أرسلت واشنطن أكبر بوارجها إلى شواطئ الحليف الشرق أوسطي، ثم أطلقت يده للانتقام بالطريقة التي يريدها، ولاستعادة صورة الجيش الإسرائيلي المتفوق، ولو اقتضى ذلك سقوط أرواح كثيرة بين المدنيين في غزة.
لكن الأميركيين لا يستطيعون، وخصوصاً في ظلّ إدارة يقودها الحزب الديموقراطي، أن يباركوا شلال الدم والتدمير والتهجير إلى ما لا نهاية. ولذلك، طالبوا إسرائيل- علناً على الأقل- بوقف المجزرة، لأنّ ما حصل في الأسابيع الأولى كان كافياً لإعادة المعنويات إلى الجيش، ولو بالتدمير.
طبعاً، نتنياهو لم يوقف العملية في غزة، وهو لن يفعل، في غياب أي ضغط حقيقي يجبره على ذلك، بل إنّه سيستفيد من الظرف لتحقيق أهداف عدة:
1- استثمار التعاطف الدولي للحصول على مزيد من المساعدات بالمال والأسلحة وأجهزة الإنذار والدفاعات المبكرة من الولايات المتحدة، تحت عنوان: تجنّب أي صدمة مماثلة في المستقبل.
2- اللعب على عنصر المنافسة في الانتخابات الرئاسية الأميركية، بين مرشحي الحزبين الديموقراطي والجمهوري، لتحصيل أفضل المكاسب لإسرائيل.
3- تحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ المخطط القديم المُعدّ لغزة، وللضفة الغربية أيضاً. ويوماً بعد يوم، يتضح ذلك بعمليات التهجير الممنهجة من شمال القطاع ثم من جنوبه. والمنطقة العازلة التي يلوّح بها نتنياهو هي إحدى الصيغ التي ستقود واقعياً إلى التهجير.
4- ترتيب الوضع على الحدود الشمالية مع لبنان، بضمان أميركي، عنوانها إنعاش القرار 1701 وفتح الباب لتفعيله وتوسيع نطاقه.
فـ»حزب الله» لن يمنح إسرائيل ذريعة لتسديد ضربة مدمّرة إلى لبنان شبيهة بضربة غزة، وهو لن يخطئ بجعل نفسه هدفاً مباشراً للإسرائيليين كما هي «حماس» اليوم، ولن يبادر إلى رفع مستوى السخونة الحالية في الجنوب. وهذا الأمر يمكن أن يتيح المجال لتفعيل الوساطة الأميركية على الخط اللبناني، عبر عاموس هوكشتاين.
والأرجح أنّ نتنياهو هو مَن عطّل الدفعة الثانية من عملية تبادل الأسرى في غزة، وليس «حماس»، لأنّه ليس مستعجلاً للسير في هدنة جديدة تمنعه من استكمال مشروع التدمير والتهجير. وما يريده هو استمرار هذه العملية، ولكن ببطء وبدرجة عالية من الشراسة. فهو يريد إنضاج مخطط التهجير والقضم والخرق والإفراغ في القطاع، وسط مناخ الوساطات، حتى يصبح مجرد مساحة مدمّرة بعد عام. وكان لافتاً أنّ عدد القتلى الفلسطينيين كان مرعباً جداً في جولة القصف الأخيرة، إذ تجاوزوا الـ750 في مدى 36 ساعة فقط. وهذه عينة عمّا يخطّط له نتنياهو ورفاقه في القطاع.
الخطة التي يعتمدها الإسرائيليون هي إطالة مدة القتل والتدمير، بحيث يتيح لهم عامل الوقت أن يحققوا أهدافهم تحت أعين الرأي العام العالمي الصامت، فيما يكون الأميركيون منشغلين بمنافساتهم الرئاسية، ويحتاج كل مرشح إلى تدعيم حظوظه بالصوت اليهودي.
سيضع نتنياهو «رأسه برأس» بايدن. وأساساً، على مستوى السياسة والطباع الشخصية، نتنياهو يفضّل دونالد ترامب. وفي المقابل، يفضّل الرئيس الأميركي عودة اليسار إلى الحكم في إسرائيل، لعلّ التفاهم معه يكون ممكناً. ولذلك، في البيت الأبيض كما في إسرائيل، هناك رغبة متبادلة في اقتلاع الآخر من الحكم. ولكن، هناك عام على الأقل سيضطر خلاله الرجلان إلى التعايش. وليس مضموناً أن ينجح بايدن في اقتلاع نتنياهو لأنّ الصوت الوحيد المرتفع في إسرائيل هو صوت المعركة.
وفي الخلاصة، نتنياهو يستطيع إجبار بايدن على القبول بخياراته تحت وطأة الأمر الواقع المفروض في غزة. ولكن، في المقابل لن يستطيع بايدن أن يفرض شيئاً على نتنياهو، أولاً لأنّه لا يملك الأدوات الكافية لذلك، وثانياً لأنّ غزة ليست أرضاً أميركية تستحق من الأميركيين أن يقاتلوا من أجلها. وأما نتنياهو فينظر إليها استراتيجياً، وفيها يريد الإسرائيليون تصفية القضية الفلسطينية، كما في الضفة الغربية.