المصدر :رأي اليوم
المؤلف : د. صادق النابلسي
الحرب تجربة قاسية من الناحية الإنسانية. وعندما تخوضها الأمم يكون في بالها أنّها لا تشبه حادثاً عارضاً. صحيح أنّمشاهد النار والدمار والدماء والأشلاء والناس التي تركض في كل الاتجاهات ولا تجد مسلكاً للخروج من جحيم الأدخنة السوداء،تعكس الفارق الحاد بين “التصور” الذي يتحرك في فضاء الأفكار، و”الصورة” التي تكشف هول الواقع. ولكنّ الأمم التي تؤمن بأنّ “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، الأمم التي تواجه الظلم والعدوان، تمشي بقدميها ووعيها إلى منطقة المخاطر، ويكون شاغلها أن تبحث لنفسها عن الحرية والكرامة والسلام بين رائحة البارود وصراخ الأطفال والنساء.
تجذب الحرب أسئلة المعاناة والخسائر. الأسئلة هذه ليست نافلة بالقدر الذي تبدو به عند البعض، كما لا يستطيع أحد أن يتورع عن ذكر نتائجها، إلا أنّ التأمل في صورها لا يجب أن تتغلب على إرادة المقاومة والصمود عند الشعوب التي تتعرض للعدوان من قوى غاشمة. صحيح، أنّالحرب مهمة هائلة ورهان خطير، والطريق إليها مرسوم بصرامة شديدة، خصوصاً إذا كان العدو يمتلك آلة إجرام كبيرة ولديه عقيدة سحق الطرف المقابل سحقاً تاماً فلا يستثني من بطشه حجراً ولا بشراً، كما هو العدو الصهيوني، ولكن هذا لا يبيح أن ينحاز المرء إلى الأجساد والنفوس المهانة.
في كتابه العروش والجيوش الجزء الأول يذكر محمد حسنين هيكل فحوى لقاء حصل بين الملك “عبد الله” ملك الأردن ورئيس الحكومة اللبنانية “رياض الصلح”أواخر عام ١٩٤٨. الملك يقول للصلح:” لا تغامروا بجيوشكم في فلسطين لأنّ اليهودي أقوى”. ثم يستطرد الملك قائلاً:” لو أنني خرجت إلى قطيع من الماعز وسألت أول كبش فيه “هل يحارب أو لا يحارب في فلسطين” فإنّ أول سؤال سوف يسأله لي هو: “كم حجم قواتك؟ وكم حجم قوات الخصم؟” “ولكن بعض الساسة العرب لا يظهرون حكمة كبش الماعز، وإنما يتسابق الكل وفيهم المتعلمون وفيهم الأساتذة والدكاترة منادين ومندفعين إلى الحرب. وحين أقول لهم حاذروا فإنهم يردون عليّ بمحاضرات عن الوطنية وعن الواجب المقدس”!
هذا المنطق الاستسلامي يرفع الهمّ العملي والمسؤولية الوطنية بحجة الخلل في موازين القوى. فيتجه بسبب الخسائر الكبيرة المتوقعة والمعاناة الأليمة التي يقع بها شعب ما إلى القبول بواقع الاحتلال ورفض أي شكل من أشكال المقاومة العسكرية. تفوّق العدو بمجموع قدراته المادية والعقائدية سوف يجعل عند أصحاب هذا المنطق أي عملية دفاع تمضي من دون فوائد إيجابية بل ستُعتبر تبجحاً ومبرراً للعدولزيادة منسوب الانتقام.
رجل الأعمال الأردني “حسن إسميك” كتب على صفحته عبر منصة (X)كيف يمكن للبعض أن يسمّي ما يجري في غزة، مع كل الضحايا وكل الدمار، انتصاراً؟ ما مفهوم هؤلاء للنصر؟
على أساس هذا الفهم أيضاً فإنّ أي عمل عنفي اتجاه العدو يجب أن يقاس بحساب المعاناة، مع ملاحظة أنّ بعض الناس في الحرب، ميّالون إلى المبالغة في تضخيمها هروباً من التعب وما اعتادوا عليه من دعة وراحة وترف وتسلية. بالنسبة إلى هؤلاء الحياة مرتبطة بالتنفس لا بالكرامة. حياة الجسم مُقدَّمة على حياة الروح. المعادلة التي تناسبهم وتناسب العدو كالتالي:”الضعيف ينسى الكرامة والقوي يتناسى شن الحرب. الضعيف يُبدي رغبة بالرضوخ، والقوي يُظهر تساهلاً في استخدام العنف”.لكن اختزال الحياة بمتطلبات الجسد تخدير لإنسانية الإنسان. إطفاء الكرامة والحرية تعني نهاية الهوية الإنسانية. فمثلما يحتاج الإنسان إلى ماء يحتاج إلى كرامة ويحتاج إلى حرية. والتهديد مهما بلغ مداه لا يمكن أن يكون أقوى من فطرة منغرسة في أصل الوجود الإنساني. التهديد والقتل والتدمير له نهاية، ولكن الإحساس بالحرية والكرامة شعور لا يمكن أن يتبدد أبداً. إنّ التضحيات لا تحمي الأرض والثروات والأعراض فحسب بل تحمي الإنسان من موته. وقد لخّص الإمام علي (ع) هذه المعادلة بقوله: “.. فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين”. التضحيات مهما كانت جسيمة ولكنها هي التي ترفع من مستويات الحياة المادية والمعنوية وهي التي تجعل إمكانية البناء تسير بشكل أفضل. وإذا كان العدو الذي لا شرعية لوجوده وأعماله يقول على لسان قادته: “العالم لا يحترم المذبوحين بل يحترم المحاربين”. فهذا يعني أن مَن يقبل الرضوخ فرداً كان أو شعباً لا يستحق الاحترام. إنّ بعض العرب من أصحاب “مدرسة الواقعية ومدرسة التسوية” يتصورون أن الاستسلام هو الحل، والحقيقة إنّ الاستسلام ليس حلاً إلا وفق المنطق الإسرائيلي. القّلة والضآلة لا تبرر التراجع والتخلي عن المبادئ. يستطيع المدافع، كحالة المقاومة الفلسطينية واللبنانية، أن يحقق التوازن والردع من دون أن تكون القوى متساوية والقدرات المادية متماثلة. المدافع دائماً يملك وسائل دفاع تعوّض النقص في الموارد والإمكانات. ولطالما كانت المقاومتان اللبنانية والفلسطينية تستفيدان من الميزات التي تمتلكانها (التدريب الجيد، الشجاعة، الكفاءة القتالية، القيادة الماهرة، الشعب الذي لا يخشى العدو ولا يهاب تهديداته.. إلخ) لتحسم بعض الجولات القتالية لصالحهما. فإذاً، ليس صحيحاً أنّ القوى المدافعة كالعبد المملوك “لا يقدر على شيء”،بل تقدر على كثير من الأشياء التي تُفشل مخططات العدو بل تعقّد عليه وجوده وأمنه واقتصاده (تقدر بعض الدراسات أنّ خسائر القطاع الاقتصادي الإسرائيلي جرّاء العدوان على غزة فاق الخمسين مليار دولار أمريكي). إنّ كل جهد يُبذل في الطريق إلى استعادة الحقوق له قيمة حيوية كبيرة ويزيد من توفير الشروط الحاسمة للفوز والانتصار على العدو في فترة لاحقة. فمثلاً إنّ الدولة التي تضع إيمانها وكل إمكاناتها وقواها المادية وأموالها تحت تصرف الجيش الوطني ستفرض على العدو أن يفكر كثيراً قبل أي مغامرة عدوانية، والشعب الذي يتوحد ويتضامن لصد هجمات العدو سيغيّر مجرى الأحداث لصالحه، كما أنّ علينا أن نعترف أنّ الحلفاء يشكلون سنداً قوياً للمدافع.وفي الحالة اللبنانية والفلسطينية فإنّنا أمام حلفاء حقيقيين يعزز دعمهم التوازن الاستراتيجي والجهود المبذولة لمنع العدو من تنفيذ عدوانه أو الاستمرار فيه.
الأمر الآخر الذي تجدر الإشارة إليه هو أنّ ما يفترضه البعض من أنّ الدفاع والمقاومة أمام عدو قوي همجي، مجرد صمود سلبي وصبر بحت، ليس صحيحاً أيضاً. الدفاع والمقاومة مرتبطان بأغراض واضحة لا تقبل الإنكار. إنجازات الشعوب السالفة ليست تصاوير خرافية، والثبات والشجاعة ليسا سباحة عكس التيار، بل تحرير مرئي وانتصار حقيقي. قتال العدو قرار منهجي واعٍ تقوم به الشعوب مراهنة على الجانب الزمني بالرغم من بلادته ووتيرته البطيئة أول الأمر. الشعوب عندما تواجه المحتل لا تكون بلا عقل وبلا روح . الدفاع والمقاومة هو المبدأ الذي تتوخاه الأمم لتكشف عن موارد قوتها الداخلية. وحتى لو لم تمتلك الأمم الموارد الكافية للانتصار على العدو في بداية الأمر، ولكنّها بهذا النشاط ستبدأ تدريجياً العمل لإحداث ضعف في إرادة العدو وجبهته النفسية والمادية بما يتيح في وقت آخر التكافؤ معه أو التفوق عليه. على أنّ الشعوب عندما تدافع عن هوياتها الترابية والسياسية لا يكون عملها مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بلحظة معينة وإنما بالتبدل في ميزان القوى الذي يسببه طول السير المقاوم في النهاية.
بعد السابع من تشرين الأول اشتعلت جبهة الجنوب اللبناني بما زاد مخاطر اندلاع حرب إقليمية واسعة. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية هي الأصرح في رسم صورة الخطر،وجاء موفدوها إلى بيروت للضغط على حزب الله ليوقف ضرباته العسكرية بعدما شكل استنزافه للعدو إحباطاً لمخططاته في غزة. وبنحو عاجل بدأت حملة إعلامية واسعة تحت عنوان “لبنان لا يريد الحرب”،وهي حملة تخفي خلفياتها الحقيقية، لكن التصورات التي وضعتها أمام الجمهور اللبناني ترتبط بالأعباء والخسائر المادية والبشرية. أي العودة إلى الفكرة التي يريد ترسيخها العدو في وعي الجمهوراللبناني وهي أنّ مواجهة القوي (إسرائيل) سيحتم تدمير الضعيف (لبنان) وشل إرادته على الوقوف مجدداً. وهذا يعني أنّ مناصرة الغزاويين سيتسبب بإرجاع لبنان إلى “العصر الحجري”. فالحملة وعناوينها التي تشتمل على عبارات مثل:” كي لا يعود الظلام” و “كي لا يعود الدمار” وحتى “لا يتكرر الماضي”هدفها خلق ترابط وثيق بين الحرب والأضرار التي ستلحق بلبنان والثمن الذي سيدفعه من جرّاء هذه التدخّليّة. هذه الحملة تغذي عند اللبنانيين المخاوف من مفاقمة الأزمة الاقتصادية التي يعيشونها وتلعب على وتر الكارثة القادمة. إنها حيلة وخدعة متقنة يستخدمها العدو لإضعاف الخصم وإلزامه بتبني سياسة “الحمل الوديع”!
في التجربة التاريخية تتعلم الشعوب أنّ التضحيات نقطة انطلاق، وأنّ هناك الكثير من الخسائر والضحايا قبل الحصول على انتصار حاسم.كل الشعوب التي حصلت على حريتها واستقلالها لم تستطع أن تتجنب الأخطار والأهوال ولكنها استطاعت التفريق جيداً بين حد الجبن وحد التهور بالشجاعة. الشجاعة التي افتقرت إليها الأنظمة العربية، حتى جاءت حركات المقاومة وأخضعت القوة الغضبية للعقل فصارت عملية القتال عملية منهجية مستندة إلى العلم والحكمة ومراكمة الموارد والطاقات بأحسن استخدام وصولاً إلى نقطة الذروة، نقطة الانتصار الكبير التي لا شك أنها قادمة !