من يحمي السيادة من مقص توماس؟

هذا (المبعوث الأميركي إلى سوريا ولبنان توم براك) لا يتحدّث كلاماً في الهواء، بل يتحدّث كلاماً يؤسّس له للمستقبل. برّاك يريد ضمّ لبنان إلى سوريا، فتضيع الأقليات في هذا البحر الواسع في سوريا، أو تهاجر. اعرفوا من سيبقى ومن لن يبقى. هذا مشروع خطير جداً”.

 

الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم في في كلمة خلال “التجمع الفاطمي” 13/12/2025

 

تدور تصريحات المبعوث الأميركي توم براك تجاه لبنان وغيره من دول المنطقة على اختلاف مضمونها، في الحلقة نفسها: أمن الكيان الاسرائيلي ومصالحه انطلاقاً من مشروعه ورؤيته لهذه المنطقة، بمشاركة وإشراف أميركي، والتي بُنيت على متغيرات طرأت عقب عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/اكتوبر عام 2023.

 

هذا المشروع يقوم بشكل أساسي على محاولة استثمار “الإنجازات التكتيكية” التي حققها العدو بالدم والنار من إبادة غزة إلى احتلال أجزاء من الجنوب السوري وقمة جبل الشيخ والسعي إلى توقيع اتفاق أمني مع النظام الجديد، إلى توجيه ضربات إلى المقاومة في لبنان والمكوث في ستة نقاط جنوبه مع تكريس واقع يقوم على استباحة سيادته وأمنه بغطاء وإشراف أميركي مباشر، استثمار كل ذلك وتحويله إلى انجازات استراتيجية طويلة المدى تكرّس مشهداً جديداً في المنطقة ككل، وعلى وجه الخصوص دول الطوق (الدول التي تحيط بكيان الاحتلال).

 

يحمل هذا المشهد عناوين عديدة كـ “اسرائيل الكبرى” و “الشرق الأوسط الجديد”، وتغذيه “اتفاقيات ابراهام” ومخططات الاقتتال الداخلي والتقسيم على أساس مذهبي وطائفي، والتلويح بجغرافيا جديدة للمنطقة غير التي أرستها دول الإستعمار عقب الحرب العالمية الثانية تحت مسمى “اتفاقية سايكس-بيكو”، إضافة إلى إضعاف كل قوى المقاومة ومحاصرتها، وصولاً إلى سياسة التهويل والتهديد والبلطجة وما يسميها بعض الخبراء أيضاً “ديبلوماسية القوّة والفرض”، التي يمارسها براك من خلال تصريحاته بين الحين والآخر: ضم لبنان إلى سوريا نموذجاً.

 

مواقف براك واستراتيجية الأمن القومي الأميركي الجديدة

 

ما ورد أعلاه تؤكد فحواه الرؤية التي حملتها الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي الأميركي التي صدرت في الرابع من الشهر الحالي من 33 صفحة، أكدت أن إمدادات الطاقة العالمية، وأمن الكيان الاسرائيلي، وحرية الملاحة عبر مضيق هرمز وباب المندب والبحر الأحمر، ما زالت تُعتبر “مصالح حيوية” تستوجب حضوراً عسكرياً وسياسياً أميركياً.

 

انطلاقاً من هذه الأهداف التي حددتها الرؤية، فإن الوسائل تصبح واضحة، وهي ما تعلن عنه واشنطن وتعمل عليه إن كان لجهة توسعة اتفاقات أبراهام وأن يبقى الكيان الاسرائيلي آمن، أو القضاء على معوقات المشروع الأميركي في المنطقة، أي وضع الدول ذات السيادة والجماعات المقاومة أمام خيارين إمّا الدخول في الفلك الأميركي وإمّا التهديد الوجودي.

 

الرؤية الجديدة هذه تعيد إلى الأذهان مشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي طرحه شمعون بيريز عام 1993 وكان “رؤية لإعادة تشكيل المنطقة عبر التعاون الاقتصادي والتكنولوجي بين الكيان الاسرائيلي والدول العربية، مستنداً إلى كتاب يحمل نفس الاسم، ويدعو إلى دمج الكيان كقوة مهيمنة عبر الشراكة الاقتصادية ونموذج “النفط العربي والعمالة العربية مع الخبرة الإسرائيلية”، مع التركيز على السلام والتنمية المشتركة والتحول نحو أنظمة مفتوحة وتقوية القطاع الخاص والمجتمع المدني، وهو ما يمهد لـ”إسرائيل الكبرى”” حسبما يرى العديد من الباحثين.

 

أما الآن، فالهدف ما يزال كما هو، أن يصبح الكيان محور المنطقة اقتصاديّاً وأمنيّاً، وكل الدول الأخرى توظّف إمكاناتها بهذا الاتجاه، وتمدّه بالحياة والاستمرارية، بينما مَن يتمنّع يكون “من خصوم واشنطن”.

 

هنا يحضر السؤال التالي، ما الرابط بين هذه الاستراتيجية وسياسة “العصا والجزرة” التي يمارسها المبعوث الأميركي براك تجاه لبنان بين الحين والآخر؟، وآخرها ما قاله في حديثٍ لصحيفة “ذا ناشيونال”، بأنّه “يجب أن نجمع سوريا ولبنان معًا لأنهما يمثّلان حضارة رائعة”، وقبلها صرّح بأن “سوريا تتجلّى بسرعة كبيرة، وإذا لم يتحرّك لبنان، فسيعود إلى بلاد الشام من جديد”.

 

الجواب أتى في تصريحات براك نفسه، إذ قال إن “لبنان بحاجة إلى التغلب على إشكالية سلاح حزب الله، هو بحاجة إلى حلّ هذه المشكلة، وإلاّ فقد يواجه تهديدًا وجوديًا”، متابعاً أنه “الدولة الوحيدة في المنطقة التي لا تصطف مع التحولات الجديدة في الشرق الأوسط”.

 

ما معنى ذلك؟ معناه ما تقوله صراحةً السياسة الخارجية الأميركية بفرض خيارين في المنطقة، “الدخول في الفلك الأميركي، أو التهديد الوجودي”.

 

ومن أفضل من توماس براك، الملياردير رجل الأعمال والمستثمر العقاري، لترجمة هذه الاستراتيجية الجديدة التي وبحسب ما كُتب في مقال نشرته صحيفة الأخبار اللبنانية “تعزّز رؤية رجل الاستثمار والربح السريع، الأمر الذي يفسّر إحياء مشروع “الشرق الأوسط الجديد” وتسارع الحركة الأميركية في استغلال المكاسب الميدانية واختلال موازين القوى باتجاه فرض خارطة إقليمية جديدة يتغيّر معها تموضع نقاط السيطرة والنفوذ الجيوسياسي بما يحفظ أولوية المصالح الأميركية”.

 

وهنا نذكّر بما أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب في أكثر من مناسبة منذ بدء ولايته الثانية، من تحويل قطاع غزة إلى “ريفييرا الشرق الأوسط” إلى إقامة “منطقة اقتصادية” في المنطقة الحدودية بين لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة، وصولاً إلى الحديث عن “منح الكيان الاسرائيلي حقوق هضبة الجولان، لأكتشف بعدها أن قيمتها تريليونات الدولارات”، مستطرداً “ربما كان يجب أن أطلب شيئاً بالمقابل!”، فهل يملك ترامب الجولان حتى يمنحه، أو يأخذ مقابله؟؟

 

في هذا السياق، لفت الصحافي اللبناني بيار أبي صعب، في حديث لموقع المنار، إلى أن “إدارة ترامب، براك جزء منها، تمارس البلطجة، وتتصرف وكأنّها تملك الكون، من دون أي احترام للقانون الدولي أو للمؤسسات الدولية، وتفرض مزاجها، فيما يخضع جزء كبير من زعماء “الديمقراطيات” الغربية، وطبعًا زعماء العالم العربي الذين هم في خدمتها، لهذه السياسات وينخرطون في لعبتها”، موضحاً أنه “هكذا يجرؤ المبعوث على إهانة سيادة بلدٍ تزعم أمريكا أنّها موجودة فيه للدفاع عن سيادته، وهذا قمة التناقض: كذبٌ بلا سقف، لا معيار للحقيقة، ولا رأي عام، ولا قانون دولي، ولا قوّة مضادّة تقول لهم: أنتم تكذبون”.

 

وتساءل أبو صعب “أيّ سيادة تدّعي واشنطن وحلفاؤها الدفاع عنها، وهم يخضعونها ويذلّونها طوال الوقت؟”، مضيفاً أن الهدف الحقيقي خلف كل هذا “إخضاع لبنان وقطع رأس المقاومة وتحجيمها، ولكن إلى أي حدّ يستطيع تنفيذ ذلك؟ هذا موضوع آخر، النية موجودة، كما ظهر في “موسيقى” الأمن القومي الأخيرة، والتي تؤكد أنهم يريدون بسرعة إخضاع الشرق الأوسط، وأسرلة المنطقة، لتتفرغ لاحقًا لملفات استراتيجية أخرى تتعلق بالصين والتجارة العالمية وغيرها”.

 

وفي هذا الإطار، أشار أبو صعب إلى نقطة مهمة وهي أن “هاجس براك ليس شكل الجغرافيا، بل هاجسه إخضاعنا لمنطق التفكيك والمصالح”.

 

ومن هنا تدرك إدارة براك جيداً أنّ المشروع الذي لا بدّ من تطبيقه لتحقيق أهدافها دونه معوّقات أصيلة، هي “جماعات متمردة” عليها، وفي هذا السياق جاء كلام الرئيس ترامب مؤخراً أن “حزب الله، مشكلة وعقبة أمام السلام في لبنان”.

 

أسئلة برسم دعاة السيادة

 

بعيداً عن خلفيات تصريحات براك وارتباطها بالسياسة الخارجية الأميركية المرسومة للشرق الأوسط، من اللافت الصمت الذي يمارسه “دعاة السيادة” تجاه كلام توماس المستهين بالسيادة وإهاناته، وهنا نستذكر وصفه سلوك الصحافيين اللبنانيين من منبر القصر الجمهوري في بعبدا بـ “الحيواني”.

 

كما نستحضر ايضاً شعارات لطالما رفعها هؤلاء، كـ”لبنان أولاً”، شعار “10452 كلم2” الشهير الذي أطلقه رئيس حزب الكتائب بشير الجميّل مطلع ثمانينيات القرن الماضي، والذي يفسّر بأنه تمسك “بكل حبة تراب من لبنان”، فأين هو هذا الشعار الآن في ظل كلام المبعوث عن ضم لبنان إلى سوريا، أو في الاستباحة الاسرائيلية للسيادة اللبنانية براً وبحراً وجواً؟ أم أنه يُرفع عندما تقضي المصلحة السياسية ذلك لإثارة نعرات وانقسامات معينة، ولمهاجمة المقاومة التي طبقت هذا الشعار قولاً وفعلاً منذ أربعين عاماً ولا تزال، ليس فقط بوجه الكيان الاسرائيلي، بل عندما أراد البعض ممارسة الحياد إزاء المد التفكيري شرق البلاد، وضعت يدها بيد الجيش اللبناني وحققت تحريراً ثانياً.

 

وهنا علّق وزير الخارجية اللبناني السابق عدنان منصور، في حديث لموقع المنار، على الصمت البعض إزاء تصريحات براك، قائلاً “للأسف الشديد، تُسجَّل في لبنان معايير مزدوجة في ما يخص مفهوم السيادة. في كل مرة تصدر تصريحات عن جهات دولية تمسّ مباشرة بالسيادة الوطنية وباستقلالية القرار اللبناني، لا نجد من يتوقف عند خطورتها. أمّا إذا صدر تصريح من جهة أخرى، تقوم الدنيا ولا تقعد”.

 

وحذر منصور من أنه يجب التأكد بناءً عليه أن “أداء الإدارة الأمريكية مرتكز في الدرجة الأولى على مصالح الكيان الإسرائيلي قبل أي اعتبار آخر، ما يدفعها إلى طرح حلول شاملة تؤدي إلى التطبيع، وإلى تكريس الأمر الواقع لمصلحة إسرائيل على حساب لبنان”، متابعاً “الولايات المتحدة تمارس ضغوطاً على لبنان، دبلوماسياً وأمنياً واقتصادياً، في محاولة لدفعه إلى الاتجاه الذي تراه مناسباً لها ولإسرائيل”.

 

مما لا شكّ فيه أن الولايات المتحدة بنت استراتيجيتها الجديدة، على قاعدة أن “التهديدات” في المنطقة “باتت أقل” مستندة إلى أحداث العامين الأخيرين، وهنا بيت القصيد.

 

هي في هذه المرحلة مع شريكها الاسرائيلي وأعوانهم تسعى إلى احتواء ومعالجة ما ترى أنه “ما تبقى من عراقيل” أمام مشروعها، لكنها كما دوماً تقيس الأمور بمقياسها.

 

في 22 نيسان/أبريل عام 2005، أعلن الشهيد الأسمى سماحة السيد حسن نصرالله أن “مساحة مزارع شبعا 10452 كلم2 بميزان الكرامة والوطنية والسيادة والاستقلال، والأسرى سمير القنطار ويحيى سكاف ونسيم نسر يعني 4 ملايين لبناني معتقل في السجون الاسرائيلية”.

 

هذه العقيدة السيادية هي التي حمت كل حبة تراب من لبنان وصدّت مشاريع الاحتلال والفدرلة والخطر التكفيري والذل والإهانة، وهي التي لم تبق أسيراً لبنانياً في سجون العدو. هي نفسها التي لا زال الكثير الكثير من اللبنانيين يحملونها قولاً وفعلاً وقد تحدث باسمهم الأمين العام الشيخ نعيم قاسم، قائلاً في رسالة لكل من يهمه الأمر “الأرض والسلاح والروح خلطة واحدة متماسكة. أيّ واحد تريدون نزعه أو تمسّون به، يعني أنّكم تمسّون بالثلاثة. هذا إعدام لوجودنا، ولن نسمح لكم بذلك، ولن يكون هذا”.

شاهد أيضاً

*وزارة الـدفـاع الـسـوريـة:* الجيش لم يبد أي تحرك لتغيير خطوط السيطرة في حلب واكتفى بالرد على مصادر النيران

*وزارة الـدفـاع الـسـوريـة:* الجيش لم يبد أي تحرك لتغيير خطوط السيطرة في حلب واكتفى بالرد …