د. قصي الحسين-اللواء
بعدما عرفنا ما كان مشروع بايدن في الولاية الأولى/ الولاية الحالية، التي مضى منها زهاء ثلاث سنوات، بقي علينا أن نعرف ما مشروع الرئيس الأميركي جو بايدن، ليس في السنة الباقية له من الولاية الحالية، وإنما ما تريد منه الإدارة الأميركية في الولاية الثانية بعد عام أو أقلّه، لعلمنا أن العام الباقي له في الحكم، ليس إلّا لتوقيع خواتيم أعمال الحروب، إلّا لحصد جوائز الحروب التي خوض فيها، والتي شملت كافة أصقاع الأرض، وكانت خاتمتها الأعظم فداحة، هي الحرب على غزة.
حقيقة كنت من بين الملايين المتفاجئين بمشروع الإدارة الأميركية، الذي نفّذ على يدي الرئيس بايدن، طيلة ولايته الممتدة لأربع سنوات، والتي لم يتبقَّ منها إلّا بعض الأشهر. فاجأنا الرئيس جو بايدن، إبن الثمانين، أن يكون على رأس الحروب في أوكرانيا، وفي السودان، وفي مالي، وفي الصومال، وفي ليبيا، وفي العراق، وفي سوريا، ثم نراه يتوّج تلك الأعمال الحربية التي ذكرناها أو نسيناها، بالحرب على غزة.
كنت فيما مضى، منذ أربع سنوات، أتابع حملة بايدن الإنتخابية. وكنت كل ليلة، أنام على حلم فوزه على الرئيس ترامب، لما كنت أشعر من قسوة هذه الولاية على الناس. كنت، كما الملايين غيري، لا أطيق جشع الرئيس ترامب المالي، ولا أطيق شركاته المتشعبة، ولا أطيق شركائه. كنت أقارن كل هنيهة، بينه وبين منافسه جو بايدن، الآتي من قلب الجيش، من قلب الإدارة. كنت أتوسّم في منافسه: أعني الرئيس بايدن، هدوء وجهه الذي يبعث على الإطمئنان. وكنت أطمئن إلى نظافة كفّه. وكنت أرى في تقدّم سنه، علامة فارقة لصالح الرجل الحكيم، لعلمي أن إبن الثمانين كثير التأنّي، يخشى العثار إذا ما مشى، ويكره المغامرات لكثرة ما خاضت قدماه فيها، ويحب السكينة والهدوء والنوم الباكر، وفي ذلك ما يطمئن الشعب، الذي لا يحلم إلّا برغد العيش، في ظلال الرايات البيضاء الداعية إلى السلم والسلام والمسالمة، لا الرايات الحمراء، المتعطّشة إلى الدماء.
كان جو بايدن، منافسا لترامب في ترشحه السابق، أوقع في القلب، أكثر حظا بحصد عواطف الشعب المسالم. تحوطت حملاته الإنتخابية، الوفرة الوافرة من الناس الأنقياء الحالمين بغدٍ ينبلج على الصباحات الحلوة الجميلة، لا على المزعجات من الأحلام، التي تكثر فيها التعديات على الحقوق، ولا التعديات على الكرامات، ولا التعديات برئاسة الحروب التي تعكّر الصفاء الذي تنشده الشعوب!
فاجأنا الرئيس بايدن بعد تسلّمه البيت الأبيض. فما مضت على ولايته بعض الشهور، إلّا وكرّت النكبات والحروب. وكنا نأمل منه أن يبادر فورا إلى إطفاء النيران مثلما تفعل حمائم السلام، لا مثلما تفعل الغربان. كنا نقول في نفوسنا:
«ويك بايدن أقدم»!..
وكان الصوت يذهب سدى، ولا يرجع لنا منه إلّا الصدى، صدى حروب تستيقظ فجأة هنا وهناك وهنالك، وفي كل مكان من الأرض. كنا نرجي منه الإقدام لإطفاء اللظى، فما كنا نجد إلّا الروغان والزوغان، إلّا الشبهات.. لا نجد إلّا التلبسات، لا نجد إلّا العودة إلى جحور الإدارة، ودفع الثعابين منها للإعتداء على الناس، على الآمنين من الناس.
ترأس جو بايدن الرئيس، جميع العمليات العسكرية، على جميع الجبهات. أخرج من بين ثوبيه النمر الغافي بين عينيه. فراحت الجبهات تشتعل، وراحت البلدان تحترق، وراحت أموال الناس، وأموال الضرائب، تصبّ لصالح المعسكرات، وخربت بيوت الناس.. فقدوا أبنائهم، وفقدوا أرزاقهم، وفقدوا مدخراتهم، بهذه الطريقة أو تلك، من الدعوة للحرب، هنا وهناك وهنالك، بلا إستثناء.
كانت الشعوب لا ترجي من الحاكم إلّا السلم، وإلا المسالمة، تتطلع إلى وجه بايدن، تستمد منه الرجاء، تستمد منه الأمل، ترجي فيه الخير العميم، والإنقلاب على الشركات والشركاء وسرقة ونهب الناس، في أميركا وخارجها. وإذا بهم يرونه، يتفوّق على الرئيس ترامب بالإبتزاز. يتفوّق على الرئيس ترامب بالشركات الحربية لا المدنية وحسب، وبالصفقات المشبوهة التي يعقدها، وبالإتفاقيات الساخنة التي يبرمها. وهذا ما أيقظ جميع شعوب العالم المسالم، على حلم مزعج: الرئيس بايدن، لا رجل إعمار، بل هو رجل حرب.
هذه القناعات المؤلمة حقا، والتي توصّلت إليها الشعوب، بالمحسوس الملموس، جسّدتها في الربع الأخير من ولاية بايدن، الحرب على غزة. خرجت جميع الثعابين من جحورها دفعة واحدة، وهاجمت غزة. إنفلت الأفعوان الأكبر من وكره، وأخذ يعمل في غزة قتلا وتدميرا، كما لم يشهده التاريخ نفسه. قاد الرئيس جو بايدن بنفسه، الغواصات وحاملات الطائرات وشحنات الأعتدة الحربية الحديثة. جاء بكل ما أنتجته المصانع الحربية في سنوات ولايته، ليضعها قبالة هذا الشعب الآمن والمسكين والمغلوب على أمره: شعب غزة. جعل المدينة التي يسكنها ثلاثة ملايين نسمة، أنقاض مدينة، كما هيروشيما، غير صالحة للسكن، ولو بعد عشرين عاما.
جميع شعوب الأرض، إرتاعت طيلة السنوات الثلاث التي مرّت، من عهد بايدن. نحاول ألا نقرن غزة بمدن أوكرانية دُمّرت و أبيدت أيضا عن بكرة أبيها، ولكن هذا هو الواقع. الأصح أن نقرن غزة، بهيروشيما ونكازاكي. والصحيح أيضا أن نقرن الرئيس جو بايدن، بالرئيس هاري ترومان، فهما من المدرسة العسكرية نفسها، وهما يتمتعان بالأخلاق الحربية نفسها، وهما متشابهان بالعمر والسن، وهما أذاقا الشعوب، ما لم تذقه من لظى طعم الحروب.
ولاية الرئيس بايدن الحالية شارفت على الإنتهاء، ولو بعد عام! وهو يتحضّر الآن، لولاية ثانية.فهل ينقلب الرئيس على نفسه، على تاريخه، على أخلاقه، على توجهات الإدارة التي يرأسها. تلك التوجهات الماضية في تذخير الجيوش وتجديدها وتنضديها، وتأجيج النيران على جبهات العالم أجمع؟ أم أنه سيغيّر الطريق التي سلكها بنا، إلى عالم أكثر أمنا وسلاما، إلى عالم خالٍ من الحروب؟ كل ذلك رهن النتائج التي سوف نراها في العام الأخير من ولايته، أقلّه في غزة وأوكرانيا. وإن غدا لناظره قريب!