حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 مبادرة عربية جريئة تلتها نتائج متباينة

في تشرين الأول/ أكتوبر اندلعت الحرب العربية – الإسرائيلية الرابعة. وللمرة الأولى في تاريخ الصراع مع إسرائيل، بادر العرب إلى خوض حرب ضدها، ففاجأوا حقاً قادة الأجهزة العسكرية والأمنية الإسرائيلية الذين لم يكن على أجندتهم أي احتمال لاندلاعها. وبعد نجاحات عسكرية عربية سريعة وقوية، استطاعت إسرائيل (بفضل دعم الولايات المتحدة ) استيعاب الصدمة الأولى والتوغل في الأراضي العربية. وعلى رغم اعتبار أنظمة عربية أن هذه الحرب شكّلت أول انتصار على إسرائيل، وأنها مثّلت -من دون شك- ذروة التضامن العربي في مواجهة إسرائيل، وأثبتت مركزية الصراع العربي- الإسرائيلي في مواجهات الحرب الباردة في المنطقة، فإنها في نهاية الأمر فتحت المجال أمام تسوية مصرية- إسرائيلية منفردة.

في تشرين الثاني/ نوفمبر 1971، وقف الرئيس المصري أنور السادات أمام مجلس الشعب المصري، بعد أن خاب أمله من إمكان التوصل إلى تسوية سياسية للصراع العربي الإسرائيلي، بسبب إفشال إسرائيل كل مساعي وزير الخارجية الأميركية وليام روجرز والمبعوث الأممي غونار يارنغ السلمية، ليقول: “لا نستطيع أن نبقى إلى الأبد معلقين في الحالة الراهنة من اللا سلم واللا حرب، وعلينا أن نتخذ قرارنا في التوقيت المناسب وبالطريقة المناسبة”. ووسط تساؤلات عن مغزى كلامه، قام السادات في شباط/ فبراير 1972 بزيارة إلى موسكو ليؤكد لقادة الاتحاد السوفييتي “أن الموقف في المنطقة لم يعد يحتمل أي تأجيل للعمل العسكري”، وطلب منهم “الإسراع في تنفيذ العقود العسكرية” الموقّعة مع بلاده. لكن رد القيادة السوفييتية لم يصل مع انقضاء الأسبوع الأول من تموز/ يوليو، فقرر السادات إنهاء عمل 15,000 مستشار وخبير عسكري سوفييتي في مصر .

فسّرت الحكومة الإسرائيلية قرار السادات تخليّاً عن الخيار العسكري، في حين أن الرئيس المصري، الذي كان يواجه استياء شعبياً متعاظماً من استمرار حالة اللا حرب واللا سلم ويشعر بعدم استعداد الإدارة الأميركية لتحقيق أي تقدم ديبلوماسي، توصّل إلى استنتاج مفاده أن أي عمل عسكري “محدود” هو الحل الوحيد لكسر الجمود القائم.

عملت مصر على تنسيق خططها العسكرية السرية مع الرئيس السوري حافظ الأسد ، وفي حين كان العاهل الاردني الملك حسين على علم بإمكان وقوع هجوم مصري – سوري مشترك، فإنه لم يرفض المشاركة فحسب، بل قام، كما ذكرت بعض المصادر، بتحذير اسرائيل من جديّة هذه الخطط، إلا أن ذلك التحذير ذهب أدراج الرياح. فعند ساعة الصفر التي حدّدها القادة العسكريون المصريون والسوريون: الثانية بعد ظهر السبت 6 تشرين الأول 1973، قامت الدبابات المصرية تساندها الطائرات، باختراق خط بارليف المحصّن على جبهة قناة السويس . ومع تقدّم القوات المصرية إلى داخل الخطوط الإسرائيلية في عمق صحراء سيناء ، كانت الدبابات السورية تخترق الخطوط الإسرائيلية شمالاً وتتقدم مسافة خمسة كيلومترات في عمق مرتفعات الجولان المحتلة.

مرّ أسبوع على جنرالات الجيش الإسرائيلي قبل أن يفيقوا من هول الصدمة التي أصابتهم ويستعيدوا زمام المبادرة العسكرية على الجبهتين. ففي 16 تشرين الأول بدأت القوات الإسرائيلية هجومها المضاد، ونجحت في عبور قناة السويس في منطقة الدفرسوار، واستمرت في تقدمها جنوباً نحو مدينة السويس ، فارضةً حصاراً محكماً على الجيش الثالث المصري، كما نجحت في وقف اندفاعة القوات السورية والتقدم خلف خطوط الهدنة في عمق الأراضي السورية. تحقق هذا النجاح العسكري الإسرائيلي بفضل الجسر الجوي الذي أقامته الولايات المتحدة الأميركية لنقل كميات كبيرة من العتاد والتجهيزات العسكرية إلى إسرائيل.

وللرد على الهجوم الإسرائيلي المضاد، اجتمع في الكويت في 17 تشرين الأول 1973، ممثلو الدول النفطية العربية وقرّروا رفع سعر برميل النفط بنسبة 75 في المئة وحظر تصديره إلى الدول الداعمة لإسرائيل، وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية، ما ساهم في تسريع المساعي الدولية لوقف إطلاق النار، وهو ما تحقق في 22 تشرين الأول 1973، عندما أقر مجلس الأمن التابع لهيئة الأمم المتحدة القرار رقم 338 ، الذي يدعو الأطراف المتحاربة إلى “الوقف الفوري لإطلاق النار” و”البدء بتطبيق بنود القرار رقم 242 لسنة 1967″، و”الشروع في مفاوضات برعاية دولية من أجل التوصل إلى سلام عادل وشامل في الشرق الأوسط “.

وحظي قرار مجلس الأمن بموافقة مباشرة من مصر، ثم تبعتها سوريا في اليوم التالي، إلا أن القوات الإسرائيلية لم تلتزم بوقف إطلاق النار على الجبهة المصرية إلا في 27 تشرين الأول، بعد أن كاد استمرارها في الحرب يتسبب بأزمة بين الجبارين، حين هدّدت القيادة السوفييتية بالتدخل المباشر وإرسال قوات عسكرية إلى مصر، ما دفع الإدارة الأميركية إلى رفع حالة الاستعداد القصوى في الجيش الأميركي (DEFCON) من أربعة إلى ثلاثة، وهي حالة لم تحدث قبلاً إلا مرة واحدة، وذلك خلال أزمة الصواريخ الكوبيّة في سنة 1962 (وبعد عدة سنوات تم اللجوء إليها خلال اعتداءات 11 أيلول/ سبتمبر 2001).

بعد تثبيت وقف إطلاق النار على الجبهات كافة، تكثّفت مساعي وزير الخارجية الأميركية هنري كيسنجر لإخراج مصر من جبهة المواجهة العربية ودفعها إلى حل منفرد مع إسرائيل. وبدأ الرئيس المصري “سياسة الخطوة خطوة” التي ابتدعها الوزير الأميركي، فوافق في 11 تشرين الثاني 1973 على عقد اجتماع بين عسكريين مصريين وإسرائيليين عند الكيلومتر 101 على طريق القاهرة – السويس، وقّع الطرفان على أثره اتفاق “فك الاشتباك” بين القوات المتحاربة وبدء تبادل الأسرى بين الجانبين.

وفي ظل معارضة سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية لهذا التوجه المصري المنفرد، انعقد في الجزائر بين 26 تشرين الثاني 1973 و28 منه، مؤتمر قمة عربي كان على رأس جدول أعماله مناقشة قضية المشاركة العربية في مؤتمر السلام الدولي الذي اتفقت على عقده القوتان العظميان. في تلك القمة، اتخذ الملوك والرؤساء العرب، على الرغم من معارضة الأردن ، قراراً سرياً يعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً وحيداً للشعب الفلسطيني.

في الجلسة الوحيدة لمؤتمر السلام الدولي الذي افتُتح في مدينة جنيف في 21 كانون الأول/ ديسمبر 1973، بمشاركة ممثلين عن مصر والأردن وإسرائيل وغياب ممثلي سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية، تقرّر تشكيل لجنة عسكرية مصرية – إسرائيلية مشتركة للبحث في الفصل بين القوات في جبهة سيناء، توصلت في 17 كانون الثاني/ يناير 1974 إلى اتفاق جزئي لـ “فك الاشتباك” صار يُعرف باسم اتفاق سيناء 1 .

ونتيجة الضغوط الأميركية المكثّفة، وافق وزراء النفط العرب في آذار/ مارس 1974، على رفع الحظر النفطي العربي، ثم نجحت جهود هنري كيسنجر في نهاية أيار/ مايو 1974 في توصل ممثلي سوريا وإسرائيل في جنيف، إلى اتفاق لفصل القوات في جبهة الجولان. وكان من المفترض أن تكون الخطوة التالية التوصل إلى اتفاق في الضفة الغربية ، لكن الحكومة الإسرائيلية رفضت المطلب الأردني بانسحاب القوات الإسرائيلية لمسافة تتراوح بين 8 و10 كيلومترات من نهر الأردن .

شكّل “الانتصار” الذي حققه الجيشان المصري والسوري في الأسبوع الأول لحرب تشرين، على رغم النجاح العسكري الإسرائيلي اللاحق، رداً على المهانة التي لحقت بالجيوش العربية خلال حرب عام 1948 ، وحرب عام 1956 ، وحرب عام 1967 . وفي سنة 1973، برز التضامن العربي بأسطع صوره، فخلاله استُخدم النفط للمرة الأولى سلاحاً في المعركة. بيد أن تلك الحرب حققت من ناحية أخرى، الهدفين الأميركيين بإخراج مصر من جبهة المواجهة العربية مع إسرائيل وإضعاف نفوذ الاتحاد السوفييتي في المنطقة، كما شجعت الرئيس المصري على الاستمرار في السير على طريق الحل المنفرد، الذي أفضى في أيلول/ سبتمبر 1978 إلى اتفاقيات كامب ديفيد .

وعلى الصعيد الإسرائيلي، تسببت الحرب في أزمة سياسية ونفسية نجم عنها تشكيل لجنة تحقيق برئاسة رئيس المحكمة العليا شمعون أغرانات ، واستقالة رئيسة الوزراء غولدا مئير من منصبها في نيسان/ أبريل 1974. كما كان من تداعيات تلك الحرب على المدى البعيد، إنهاء هيمنة حزب العمل الإسرائيلي منذ سنة 1948، على الحكم في إسرائيل ووصول تجمع الليكود القومي اليميني بزعامة مناحيم بيغن إلى السلطة في أيار 1977.

شاهد أيضاً

استطلاع للرأي العام الفلسطيني في الضفة الغربية و قطاع غزة:

رضاك عن دور الدول العربية والإقليمية في الحرب الأخيرة؟ المصدر: المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية، …