- سليم سلامة
انهيار مفهوم “إمكانية تحقيق سلام بدون الشعب الفلسطيني” كان موضوع الحلقة السابقة (21 تشرين الثاني 2023) من سلسلة المقالات هذه، التي نستعرض فيها المفاهيم المركزية الأبرز التي شكلت قاعدة الرؤية الأمنية ـ السياسية الإسرائيلية التي يتعمق الإجماع الإسرائيلي على حقيقة أنها مُنيت بالفشل الذريع، بل بالانهيار التام، والتي تتزايد وتتعالى الأصوات الداعية إلى إعادة النظر فيها، لكن بعد صبّ الجهد بداية على تحديدها، من منطلق القناعة بأن تحديد تلك المفاهيم هو الخطوة الأولى التي لا مناص منها في مسيرة إعادة ترميم ما ينبغي ترميمه في العقيدة السياسية والأمنية الإسرائيلية، ثم في إعادة هيكلة الأجهزة، المنظومات والأذرع المكلفة بتطبيق هذه العقيدة في المستقبل.
هذا العرض لهذه المفاهيم مبنيٌّ على الرصد والتوثيق اللذين يقدمهما مشروع مشترك أطلقته مؤخراً “مؤسسة بيرل كتسنلسون”، التي يقول شعارها المركزي: “نبني أسساً طويلة الأمد لمعسكر المساواة في إسرائيل”، و”مركز مولاد لتجديد الديمقراطية في إسرائيل”، تحت عنوان “انهيار المفاهيم ـ الطريق إلى إخفاق 7 أكتوبر 2023”. وقد وضع هذا المشروع خارطة تفصيلية بالمفاهيم التي انهارت، فقادت بنفسها وبانهيارها إلى الإخفاق. وكنا قد عرضنا حتى الآن لأربعة من المفاهيم المركزية التي حددتها تلك الخارطة ونعرض، في هذه الحلقة، للمفهوم المركزي الخامس الذي وضعت له “وثيقة المفاهيم” عنواناً مشتقاً من الممارسة السياسية الإسرائيلية التي توهّمت وأوهمت أن بمقدور الجيش الإسرائيلي “الرقص على كل الحبال وفي كل الأعراس” في الوقت نفسه: “ثمة جيش كافٍ للجميع”، أو “الجيش قادر على النهوض بكل المهامّ”! بينما أثبتت التطورات، وخصوصاً منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، أن المشروع الاستيطاني في المناطق الفلسطينية يستنزف الجزء الأكبر من موارد الجيش، قواته وقدراته، حتى أصبح يضع إسرائيل وجهاً لوجه أمام ضرورة الاختيار: إما الاستيطان وإمّا الأمن!
المستوطنات في الضفة الغربية تستنزف الجزء الأكبر من القوى البشرية في الجيش الإسرائيلي
في صباح يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر كانت القوة العسكرية التي نشرها الجيش الإسرائيلي على الحدود مع قطاع غزة مؤلّفة من كتيبتين عسكريتين فقط، بينما كانت القوة التي نشرها الجيش في الوقت نفسه في مناطق الضفة الغربية تشمل لا أقل من 32 كتيبة. هذه المعلومة، التي كان يمكن أن تبدو “عادية تماماً” قبل 7 أكتوبر، تجسّد حقيقة أن المستوطنات في الضفة الغربية تستنزف الجزء الأكبر من القوى البشرية في الجيش الإسرائيلي (الجنود) ولذلك، فهي تُحبط بالتالي قدرته على حماية المناطق الحدودية الأخرى، كما تحول دون تمكّنه من إجراء التدريبات اللازمة واللائقة استعداداً لحرب محتملة قادمة. وبناء على هذا، فإن ما حدث في 7 أكتوبر قد أوضح، بما لا يرقى إليه أي شك، ثمن اختيار إسرائيل تفضيل المستوطنات على أي شيء/ قطاع/ مجال/ مكان آخر في إسرائيل فوضعها، بالتالي، أمام ضرورة ملحّة للاختيار من الآن فصاعداً: إما المستوطنات وإما الأمن!
كيف وصلت إسرائيل إلى هذه النقطة المحددة؟ ترسم وثيقة “انهيار المفاهيم” خط التسلسل الزمني الذي أوصل إليها، فتعيد نقطة بدايته إلى أيلول 2013 حين قررت حكومة بنيامين نتنياهو التوقف عن توكيل جنود من الجيش بمهمات حراسة البلدات الإسرائيلية الواقعة عند الحدود الشمالية (مع لبنان)، وعند الحدود الجنوبية (قطاع غزة ومصر). ثم تلا ذلك، في حزيران 2014، قرار بفصل النصف من “مركّزي الأمن الجاري العسكري” في بلدات “غلاف قطاع غزة”، وذلك ضمن قرارات أخرى لإجراء تقليصات في الميزانية. وفي حزيران 2016، يصرّح مسؤول رفيع في وزارة الدفاع الإسرائيلية بأنّ “الجيش محدود في قدرته على إجراء التدريبات وتحسين الكفاءة بين جنوده وضباطه، وذلك لأن جزءاً كبيراً من قوات الجيش منتشرة في مناطق يهودا والسامرة (الضفة الغربية) ومنهمكة بالمهمات الموكلة إليها هناك”. وفي كانون الأول 2021 اكتمل العمل في إقامة الجدار الكهربائي المحيط بقطاع غزة، بطول نحو 65 كيلومتراً وبتكلفة إجمالية بلغت ثلاثة مليارات ونصف المليار شيكل. ثم، في الشهر نفسه، قام الجيش الإسرائيلي بجمع كل قطع الأسلحة التي كان قد وزعها من قبل على سكان بلدات “غلاف غزة” لغرض الدفاع عن النفس.
تؤكد الوثيقة حقيقة أن الجيش الإسرائيلي، وعلى الرغم من كل ضخامته، البشرية والعتادية والتكنولوجية، يبقى بمثابة “مورد محدود”، بما يعني أنه من غير الممكن توفير عدد لا نهائي من الجنود، الدبابات، المروحيات والوسائل القتالية المختلفة لكل بلدة من البلدات في إسرائيل. لذلك، فإن طريقة استخدام موارد الجيش والقرارات بشأن كيف وأين يتم نشر قواته تعكس سلم الأولويات كما تحدده الدولة.
لماذا كانت الحاجة إلى تخصيص 16 ضعفاً من القوات/ الكتائب العسكرية للحماية في الضفة الغربية عمّا خُصِّص لحماية الحدود مع قطاع غزة؟ لسبب “بسيط جداً” هو أن اليمين الاستيطاني ـ كما تقول الوثيقة ـ أقام طوال عشرات السنين مشروعاً استيطانياً مدنياً “في قلب منطقة معادية” يتطلب موارد أمنية هائلة، على حساب القطاعات والمجالات والمناطق الأخرى بالتأكيد.
هنا يجب التوقف للإشارة إلى الحقيقة التاريخية الجوهرية التي تفيد بأنّ الذي أطلق “المشروع الاستيطاني في قلب منطقة معادية” (الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان السوري) والذي وضع لبناته الأولى ووفر الدعم وغطاء الشرعية لطلائعييه، من الأفراد ثم التنظيمات، لم يكن “اليمين الاستيطاني” بل من سبقه في الحكم ـ تحالف أحزاب “اليسار” و”الوسط” الإسرائيليين، ثم جاء اليمين وركّز جهوداً وموارد ضخمة جداً من أجل تكثيف الاستيطان وتوسيع مشروعه بصورة مذهلة.
لكن، على الرغم من ملاحظتنا التاريخية هنا وتجاوزاً لها، يمضي معدّو “وثيقة المفاهيم” على الخط الذي رسموه لأنفسهم منذ البداية فيكتبون أنه “خلافاً لادعاءات اليمين” (وهنا، أيضاً: هذه الادعاءات المقصودة سبقت صعود اليمين إلى الحكم!)، فإن دواعي إقامة هذا المشروع الاستيطاني ورصد الموارد الأمنية والاقتصادية الهائلة التي يتطلبها “ليست، ولم تكن في يوم من الأيام، دواعي أمنية، بل هي دواعٍ دينية وأيديولوجية: استعجال قدوم المخلّص، الاستيلاء على أرض إسرائيل التوراتية، إقصاء السكان الفلسطينيين ومنع إعادة أراضٍ في إطار أي اتفاق سياسي”.
الاستيطان ـ مشكلة خطيرة برؤوس عدّة!
لتحقيق السيطرة على أكثر ما يمكن من الأراضي في الضفة الغربية، أقيم العديد من المستوطنات والبؤر الاستيطانية بحيث تفصل بينها مسافات كبيرة جداً، وهو ما أصبح يعني أن “الوجود المدني المنتشر في أنحاء الضفة الغربية لا يساهم في ضمان وتعزيز الحماية، بل يُثقل على قوات الأمن ويستهلك جزءاً كبيراً من موارد جهاز الأمن ويُضيف عدداً غير نهائي من نقاط الاحتكاك التي تطيل الخطوط الدفاعية”، بحسب التقييم الذي وضعه قائد المنطقة العسكرية الوسطى ونائب رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي سابقاً، الجنرال موشي كابلينسكي.
ووفقاً لتقديرات متحفظة جداً، فإنّ الخط (الحدودي) الفاصل بين إسرائيل والضفة الغربية هو أطول بخمس مرات على الأقل مما كان يمكن أن يكون عليه بدون المستوطنات.
كما أن أكثر من نصف مليون إسرائيلي يعيشون اليوم في “مناطق يهودا والسامرة” (الضفة الغربية)، معظمهم في مستوطنات تقع غربيّ الجدار الفاصل الذي “يوفر لها الحماية”، غير أن مستوطنات كثيرة، كذلك كل البؤر الاستيطانية تقريباً، تقع شرقيّ الجدار، بل إن جزءاً غير قليل منها يقع وسط “سكان فلسطينيين معادين”. ومن أجل توفير الحماية لهؤلاء، سواء في حضانات ورياض الأطفال، في المدارس أو على الشوارع التي تربط المستوطنات بإسرائيل وكذلك الحياة اليومية الروتينية لعشرات الآلاف من الأشخاص (المستوطنين) الذين “يخلقون احتكاكاً وتوتراً دائمين مع الفلسطينيين”، يحتاج الجيش الإسرائيلي إلى تخصيص كمية هائلة من القوى البشرية ومن الموارد العسكرية.
على سبيل المثال، في المستوطنة اليهودية في قلب مدينة الخليل الخاضعة لسيطرة الجيش الإسرائيلي، يعيش نحو 800 “مستوطن دائم” ونحو 250 “من تلاميذ المدارس الدينية” اليهودية (ييشيفوت). من أجل حماية هؤلاء، بين 33.000 فلسطيني، يحتفظ الجيش الإسرائيلي في المدينة بكتيبة كاملة من سلاح المشاة وبسريّتين اثنتين من عناصر شرطة “حرس الحدود“، أي ما مجموعه تقريباً 600 عنصر أمنيّ. معنى هذا أن حماية مستوطنين اثنين تتطلب “أكثر من جندي واحد”، بالمعدّل. ومثال آخر: قبل يومين فقط من يوم “السبت الأسود”، خصص الجيش ما لا يقل عن ثلاث كتائب عسكرية ووسائل عسكرية أخرى عديدة لتأمين حراسة الصلاة الجماهيرية التي نظمها المستوطنون في “قبر يوسف” في قلب مدينة نابلس. ويقتبس معدّو الوثيقة من بحثٍ كان قد نشره مركز “مولاد” في العام 2017 حول العبء الأمني الثقيل الذي تشكله المستوطنات على كاهل الدولة والجيش وجاء فيه أن حجم القوات التي يضطر الجيش الإسرائيلي إلى نشرها والإبقاء عليها في الضفة الغربية يعادل نصف ـ وأحيانا ثلثيّ ـ إجمالي القوة المقاتلة التي في حوزته. أي أن هذه القوات أكبر حتى من تلك المعدّة للدفاع عن كل الجبهات الأخرى مجتمعة (لبنان، سورية، قطاع غزة والعراباه في الجنوب).
غير أن هذه ليست المشكلة الوحيدة التي يخلقها ويفاقمها المشروع الاستيطاني. فهو لا يؤدي إلى تحويل موارد أمنية هائلة إلى الضفة الغربية، لأسباب ودوافع أيديولوجية مسيانية، فقط وإنما هو يلحق أيضاً ضرراً جسيماً بكفاءة الجيش ومدى جاهزيته لخوض حرب على جبهات أخرى. ذلك أن التشكيلات العسكرية التي تقضي جلّ وقتها في مهمات شُرَطيّة في مناطق الضفة الغربية لا تجد ما يكفي من الوقت للتدريبات التحضيرية لسيناريوهات حرب مستقبلية. وهو ما عاد وأكده مؤخراً اللواء (احتياط) يتسحاق بريك، القائد السابق للواء المدرعات والكليات العسكريّة، في أعقاب الهجوم المباغت الذي نفذته حركة حماس في عمق الأراضي الإسرائيلية يوم 7 أكتوبر، مضيفاً: “ليس لدينا ما يكفي من الجيش لنوكل إليه المهام الشرطية اليومية في قطاع غزة والضفة الغربية ثم أن نتوقع منه أن يؤدي مهمته في حماية الحدود الشمالية، مع لبنان. إن هذا غير ممكن”.
وفوق هذه وتلك تأتي مشكلة مستعصية وخطيرة أخرى ناجمة عن الاستيطان ومشروعه تتمثل في الإرهاب اليومي الذي يمارسه المستوطنون، وهو ما يجعل مهمة الحماية في الضفة الغربية أكثر صعوبة وتعقيداً بدرجات، ثم يزيد بالتالي وبالضرورة من حجم الموارد والمخاطر المترتبة على ذلك، بصورة كبيرة جداً. فإذا كانت قد وقعت في العام 2021، على سبيل المثال، 450 حادثة “عنف استيطاني” (بما في ذلك إشعال الحرائق، رشق الحجارة وإطلاق النيران الحية) ضد فلسطينيين في الضفة الغربية، فقد تضاعف هذا العدد مرتين في العام 2022 ووقعت ـ حسب معطيات الجيش الإسرائيلي نفسه ـ 850 حادثة كهذه، أي بمعدل حادثتين ـ ثلاث في كل يوم! وهنا، يتعين على الجيش “التعامل مع” هذه الأحداث، ثم “معالجة” أي ردود فلسطينية عليها. لكن هذه الأرقام سجلت ارتفاعاً حاداً جداً خلال الفترة الأخيرة، وخاصة بعد السابع من أكتوبر، حتى اضطر رئيس “جهاز الأمن العام” (الشاباك) ورئيس هيئة أركان الجيش إلى التحذير الصريح من مغبة استمرار هذا الوضع، وذلك في إحدى الجلسات التي عقدها “المجلس الوزاري المقلص للشؤون الأمنية” في الفترة الأخيرة.
إجمال: “إمّا المستوطنات وإمّا الأمن”!
تأكيداً لانهيار مفهوم “ثمة جيش كافٍ للجميع”، تخلص “وثيقة المفاهيم” في هذا السياق إلى القول: “أصبح من الواضح اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن إسرائيل مُجبرة على الاختيار: إما المستوطنات وإما الأمن”! ذلك أن الوضع الحالي، الذي تُوظَّف فيه موارد الجيش، بجزئها الأكبر، لحماية المستوطنين هو “ليس قدراً محتوماً وإنما قرار سياسي تتخذه الحكومات الإسرائيلية”.