سبعة وسبعون يوماً مرّت على الحرب في جنوب لبنان، بين المقاومة الإسلامية من جهة، وبين أعتى الجيوش عتاداً وعديداً وقوة استخباراتية، والذي يتمركز على الجبهة الشمالية في فلسطين المحتلة، ويقضم جزءاً لا يستهان به من الأراضي اللبنانية التي لا زالت المقاومة الإسلامية مصرة على تحريرها كما حررت عام 2000 الجزء الأكبر.
“أقوى الجيوش” في التوصيف، هو الذي لا يمكن اختراق تحصيناته وتشكيلاته وعديده، وذاك الذي يمتلك القوة الميدانية في القتال، من ناحية التجهيزات العسكرية واللوجستية والقدرات القتالية العالية لعديد أفراده.
هو “الجيش السرّي” في تفاصيله وتركيبته المتماسكة، والتي لا يمكن أن تتداعى، وهنا بيت القصيد…
ولأجل أن يدرك الإعلامي ما الذي يحصل لينقل الرؤية بحرف وكلمات حقيقية ومعلومات دقيقة وضمير مرتاح، لنقل حقيقة ما يجري على جبهة جنوب لبنان، المشتعلة منذ اليوم الثاني لحرب غزة اي في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023، لتصل الكلمات إلى كل بيت، ويقرأ المواطن حقيقة الميدان، ويشعر بالإنجازات والبطولات التي تجري في الساحة الجنوبية، كان لا بد من…
لقاء غير عادي ارتفع فيه هرمون الأدرينالين، وحالة التوخي الدقيق، بانتظار عقارب الساعة ليكون الموعد قد ابتدأ…
تحرك الموكب من بيروت في المكان “اللا معلوم”. لم نكن ندري ما ينتظرنا بالشكل التفصيلي، لكنه لقاء استثنائي …
قاعة كبيرة بترتيب أنيق ومتواضع. طاولة اجتماعات جُهّزت عليها أقلام وأوراق بيضاء. كرم الضيافة كان جلياً بفواكه تشبه عطر الجنوب، كأنها قطفت الآن من حقلٍ قريبٍ، فيما القهوة كانت سيدة الطاولة، بينما رغب البعض باحتساء الشاي مع برودة الطقس الجنوبي.
عند الدخول إلى القاعة، استقبلتنا وجوه تشبه السماء بسماحتها، هدوء، وقار، وابتسامات سخية توزّعت على الجميع وكأنها صدقة جارية لأصدقاء نعرفهم منذ زمن طويل.
رجل خمسيني، متوسط الطول، سمِح الوجه، تركزت عليه العيون، لندرك في ثوان أنه القائد العسكري الميداني… “بحر”!
في إسمه تتجلى صفاته المعنوية، فالبحر يحمل أوجهاً متعددة. عند الهدوء، تدرك حاجتك إليه في لحظات الحب والحزن والسكينة، لترمي كل أثقالك واثقال همومك عليه. أما عند اشتداد غضبه، فلا يمكن لأحد أو شيء أن يصمد أمام عواصفه.
هو خبر أجيالاً وحروباً متعددة، منذ بداية تأسيس المقاومة، أي من الطلقة الأولى التي كان فيها المقاومون “على عدد الأصابع”، وصولاً إلى الحرب في سوريا والعراق.
القائد “بحر” رمى شباكه بداية عما نريده من كنز المعلومات الذي في باطنه، ونحن نعلم جيداً أن المرجان واللؤلؤ المكنون، لا يمكن تقديمه على طاولة الاجتماعات، لأن لكل معلومة وقتها، ولا يمكن البوح بكل “أسرار البحار”!
إلى جانب القائد الميداني، جلس شاب ثلاثيني ببشرة حنطاوية وهدوء.
تدرك أن للبحر روافد تشبهه حد الطباع: ابتسامة خجولة، وصوت خافت. يعمل، ويجهز عرضاً معلوماتياً، لتظن لوهلة أن القائد هو من سيستعرض المادة، ليُفاجأ الجميع أن هذا الشاب، ورغم صغر سنّه، يشبه قيادته.
استعرض “باسل”، بتشريح مفصّل لجيش العدو الإسرائيلي، من أعلى القيادة والأركان، وصولاً إلى أصغر فرقة وفصيل… ربما لم أستطع حفظ الترتيب لهذا الجيش “الذي لا يُقهر”، ولكن الإبداع يبدأ من ناحية تحديد تموضعات هذا الجيش، وتبديلاته، وصولاً إلى أصغر خلية فيه قد تتحرك شمالاً وجنوباً، أو حتى استحداث مهام جديدة. التقسيمات كلها كانت معروضة وكأنك تستعرض هيكل مؤسستك الخاصة.
استطاع “باسل”، بجمل سريعة ودقيقة، أن يسرق انتباهنا لشخصية تمتلك الخبرة والمعلومات الأمنية التفصيلية للعقيدة الإسرائيلية، وجيشها الهجين الذي يتكيّف مع الحاجات على الرغم من أنه يجنّ، ويفقد السيطرة على غريزته المدمرة، عندما يتلقى أي ضربة، فيتهور حيناً بردات فعله اللامنطقية والوحشية، كما يفعل بغزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.
ضربات العدو الإسرائيلي المجنونة تجعل المقاومة تتأكد أنها اوجعته في الميدان، لذلك تقوم القيادة باحتساب كل تحركاتها، وتقدّرها على “ميزان الذهب والزعفران”، فكل شيء أمامهم واضح في الجبهة: العديد، الآليات، التجهيزات، التموضع، التحركات…. على الرغم من أنهم لا يمتلكون التجهيزات التقنية التي زرعتها وأقامها العدو الإسرائيلي عند الحدود.
الحرب المعلوماتية تسابق حرب الأسلحة والصواريخ، يتكاملان يتقاطعان لتصل الدقة في المعطيات، فيكون الميدان هو سيد الانتصارات.
حرب الجيوش المنظمة فاق توقعات العدو الصهيوني الذي ما زال يبحث عن أي معلومة وصلت، إلى حد التواصل مع أصغر عميل للاستفادة منه لتوصيف المقاومين وأماكن ترددهم.
التكتيك العسكري في طور تجديد نفسه كل فترة، حيث أن الحرب الميدانية تمر بمراحل عدة، منها المبادرة.. التلقي.. استيعاب الضربة.. البحث عن نقاط القوة والضعف.. إعادة التموضع.. وامتلاك القوة في الميدان بالبدء بمراحل أقوى.
القائد “بحر” غاص في تفاصيل ويوميات الحرب “جنوبية الهوى”.
هي المرة الأولى لجيل جديد لم يخبر القتال مع العدو الصهيوني. امتلك الخبرة في الحرب السورية، لكنها اختلفت بالأداء والجغرافيا والمعلومات عما هي عليه في الجبهة الجنوبية. لها نكهة خاصة مليئة “بتكنولوجيا متطورة” وقدرات عسكرية تفوق قتال الشوارع.
ما رآه البعض من أعداد شهداء عالية، مرده إلى الروح الثورية، والحماس الذي جرى في شرايين “مقاومي الجيل الجديد”.. وهو طبيعي. واستطاع القادة الميدانيون الإمساك بالميدان الجغرافي مجدداً، وتغيير التكتيكات، إذ أن المرحلة الأولى أنجزت بنجاح تام، بعد أن استهدف المقاومون 98 % من التكنولوجيا التنصتية، وعواميد الإرسال، والرادارات التي يمكن اعتبارها أبراجاً تجسسية فائقة القدرات كانت تسيطر على جنوب لبنان وعلى أبنائه الموجودين والمتنقلين على طول الحدود.
هذه الرادارات والكاميرات وأجهزة التنصت، كلّفت العدو الإسرائيلي مليارات الدولارات، فضلاً عن الوقت الطويل الذي أخذته لنصبها عند الحدود.
ثلاثون يوماً، دمرت فيه المقاومة القدرات التكنولوجية التجسسية، وأجهزة التشويش، والرادارات، ليصبح العدو “أعمى وأطرش” في جنوب لبنان.
حاول عندها الإسرائيلي استبدال “عظمته” التي تحطمت، بكاميرات تعتبر بدائية، نسبة لما خسره بسبب صواريخ واستهدافات المقاومة، فحيناً يستخدم منطاداً، وأحياناً يُحضر “رافعة” للتجسس على أي تحركات ورصد المقاومة.
مرحلة جديدة بدأتها المقاومة، بعد الخسارة الكبيرة التي مني بها الجيش الصهيوني، من إعادة تموضع واختبار هفوات العدو ونقاط ضعفه.
في المقابل يعمل العدو على محاولة جر المقاومة لإظهار كل قدراتها العسكرية، وغوص غمار البحار، لكن المقاومة بالمرصاد… هي حبات لآلئ استعرضتها المقاومة في الميدان، لكن “متحف المجوهرات” لم يحن وقت استعراضه، فلكل ساحة وباحة “مجوهراتها النفيسة”، فلا هي الحرب ولا اللا حرب، هي بين إثنين، محدودة المكان إلى حد ما، فيما المقاومون موجودون في القرى.
لم تستخدم المقاومة، حتى الآن، سوى بعضاً من خبرتها وقوتها في الميدان لا تتجاوز أصابع اليد بالمئة.. تركوا العدو في حيرة من أمره: أين هي تلك القدرات وما هي؟! هي حرب المفاجآت المكنونة، تنتظر عند الحدود أي تفصيل قد يحدث.
ربما هنا الصعوبة تكمن لرجال الله، أن كل شيء مدروس، والأبواب ليست مشرعة لكل الرياح، لذلك يتلقف المقاومون الهواء بصدورهم كرمى لعيون المواطنين اللبنانيين.
السيطرة والمبادرة لا تزال بيد المقاومة، لم تظهر كل ما لديها من أسرار.. تركت العدو يتخبط، وجعلته يدرك أن الحرب مع لبنان ستعيده إلى العصر الحجري. فهذا “جل العلام”، الذي يضم أجهزة هوائيات قد تكون إقليمية، بات حطاماً وخردة عند الحدود. وها هي المستوطنات قد أفرغت من محتليها ولم تعد آمنة لهم، بل باتت المقاومة كابوساً يراودهم، لأنهم ببساطة ليسوا أصحاب الأرض.
دقة المعلومات التي تملكها المقاومة تفوق الخيال، وكأنهم هناك كانوا بينهم، أخذوا كل تفاصيلهم، أسماءهم، عناوينهم، أرقام هواتفهم، تحركاتهم، وربما ماذا يحبون من الأطعمة وماذا يكرهون… باتت المعلومة أقوى من الصاروخ الموجه. هذه الدقة تجعلك تدرك كنه هذا “البحر” ورفاق دربه، وهذا غيض من فيض مما يمتلكون …
هم سيكونون حيثما شاؤوا، كالبحر.. كل الكنوز المخبأة في داخله ربما ستحملها الأمواج لتعطيها للمدن المحيطة، وتبتلع ما تشاء من بيوت العنكبوت …
غادرنا المكان وفي جعبتنا قطرات من ندى “البحر” وعطر مجاهدين، وضعناها في قارورة أحلامنا القادمة، خُلِط من أنفاس مجاهدين رابطوا عند الثغور، ومن بوح الليالي التي سهروا فيها ولم تغمض عيونهم لأجل كل لبناني نام في بيته بأمان… عطر سنحمله في ذاكرتنا لنقول لأولادنا يوماً، في لبنان وفلسطين، هذا العطر هو أنفاس بلادنا التي تحررت.