من تداعيات أحداث 7 أكتوبر: انهيار مفهوميّ أن “تقوية إسرائيل تتطلب إضعاف القطاع العام” وأن “تعيين المقربين يساهم في تقوية الدولة”!

 سليم سلامة

نواصل، في هذه المقالة (السادسة في هذه السلسلة)، عرضنا لما توصل إليه مشروع الرصد والتوثيق المشترك الذي أطلقته مؤسستان إسرائيليتان بارزتان في أعقاب الهجوم المباغت الذي شنته المقاومة الفلسطينية على القواعد العسكرية والبلدات في منطقة ما يسمى “غلاف غزة” في عمق الأراضي الإسرائيلية يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. فقد خلص المشروع المذكور إلى وضع ما يمكن تسميته “وثيقة المفاهيم المركزية” الأبرز التي شكلت قاعدة الرؤية الأمنية ـ السياسية الإسرائيلية والتي يسود المجتمع الإسرائيلي إجماع شبه تام على حقيقة أنها مُنيت بالفشل الذريع، بل بالانهيار التام، في ما اصطلحوا على تسميته بـ”يوم السبت الأسود” وعلى أنّ تحديد تلك المفاهيم هو الخطوة الأولى التي لا مهرب منها في مسيرة إعادة ترميم ما ينبغي ترميمه في العقيدة السياسية والأمنية الإسرائيلية، ثم إعادة هيكلة الأجهزة، المنظومات والأذرع المكلفة بتطبيق هذه العقيدة في المستقبل. وقد رسمت مؤسستا “بيرل كتسنلسون” (شعارها المركزي: “نبني أسساً طويلة الأمد لمعسكر المساواة في إسرائيل”) و”مركز مولاد” (لتجديد الديمقراطية في إسرائيل)، في “وثيقة المفاهيم” هذه خارطة تفصيلية لأحد عشر مفهوماً هي “المفاهيم المركزية التي انهارت، فقادت بنفسها وبانهيارها إلى الإخفاق”. وكنا قد عرضنا في الحلقات الخمس السابقة لسبعة من هذه المفاهيم المركزية، كان آخرها العرض الذي تناولته الحلقة الأخيرة للمفهومين السادس (اليمين قويّ في الأمن) والسابع (الاستعداء والتحريض لا يمسّان الأمن). ونعرض، في هذه الحلقة، لمفهومين مركزيين إضافيين هما الثامن والتاسع في “وثيقة المفاهيم” هذه، تحت العنوانين التاليين: “إسرائيل تتقوى بتقليص القطاع العام” و”تعيين المقربين يساهم في تقوية الدولة وتعزيزها”.

7 أكتوبر ـ القطاع العام عاجز عن تلبية احتياجات المواطنين

على مدى سنوات عديدة، سيطر على إدارة دولة إسرائيل نهج سياسي يقوم على القناعة بأنّ تقوية دولة إسرائيل مشروطة بتنجيع القطاع العام وأدائه. لكنّ تنجيع القطاع العام يستوجب “تجويعه”، بمعنى تقليصه وإضعافه إلى الحد الأقصى الممكن، لأن القطاع الخاص قادر على سد النقص وحل هذه الإشكالية. لكن “وثيقة المفاهيم” ترى أنه منذ 7 تشرين الأول، حين أصبحت الدولة عاجزة، تماماً تقريباً، عن القيام بمهامها أو تجد صعوبة بالغة جداً، على الأقل، في تأدية وظائفها الأساسية، تبيّن بصورة واضحة أن ثمة ثمناً باهظاً جداً لهذا النهج السياسي الذي اعتُمد في إدارة شؤون الدولة.

تعيد الوثيقة بدايات هذا النهج إلى العام 2003 وتحديداً إلى خطاب ألقاه وزير المالية آنذاك، بنيامين نتنياهو، تحت عنوان “السمين والنحيف”، وقال فيه جازماً بأنّ “القطاع العام هو مشكلة الاقتصاد الإسرائيلي”، لأنه يشكل ـ في منظوره ـ عبئاً على المواطنين. في التشبيه الذي تضمنه عنوان الخطاب قصد نتنياهو القول: القطاع الخاص، النحيف والناجع، يحمل على ظهره وكتفيه القطاع العام، السمين وغير الناجع. وقد استخدم ذلك التشبيه لتبرير السياسة الاقتصادية التي بادر إليها آنذاك وفي مركزها خفض الضرائب (بما يخدم الأثرياء وأصحاب المداخيل المرتفعة) إلى جانب تقليصات حادة في القطاع العام، وخاصة في نظام الضمانات الاجتماعية، في الخدمات الاجتماعية العامة التي تقدمها الدولة للمواطنين وفي رواتب العاملين في القطاع العام. وبالفعل، أعلن نتنياهو في خطابه ذاك عن إطلاق خطة جديدة لإجراء تقليصات واسعة، عميقة وبعيدة الأثر في الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة وفي رواتب العاملين في القطاع العام، إضافة إلى الشروع في خصخصة الكثير من مجالات الخدمات العامة، سواء في مجال التعليم أو الصحة العامة أو الصحة النفسية أو الخدمات الاجتماعية أو غيرها.

ثم في العام 2014 دفع نتنياهو نحو تشريع قانون جديد يُلزم الحكومات الإسرائيلية (المستقبلية) بإجراء تقليصات تدريجية في الاستثمارات والمصروفات الحكومية المرصودة في الميزانية العامة للدولة لمجال الخدمات العامة المقدمة للمواطنين، حتى أن محافظة بنك إسرائيل (البنك المركزي) تضطر إلى الخروج بموقف علني في العام 2014 لتحذر من أن “الحكومة لا تلبي احتياجات الجمهور ولا مناص من زيادة حجم المصروفات العامة”. وحيال استمرار النهج الذي كرّسه نتنياهو قانونياً، تهبط إسرائيل في العام 2016 إلى المكان قبل الأخير “بين الدول الغربية” في حجم المصروفات العامة (الحكومية) على الخدمات الاجتماعية للمواطنين. وينعكس هذا الهبوط الحاد في التدريج العالمي ـ الغربي في أزمة حادة وغير مسبوقة تعصف في العام 2022 بمنظومة الخدمات الاجتماعية العامة، بما في ذلك نقص في القطاع العام بنحو 1500 عامل اجتماعي وأكثر من 10.000 أخصائي/ مُعالِج نفسي. ثم يأتي تقرير “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية” (OECD) ليكشف، في حزيران 2023، أن عدد الأطباء للفرد في إسرائيل هو أقل بـ 10% عن المتوسط العام في الدول الغربية وليحذّر (التقرير) من مغبة حصول نقص حاد وخطير جداً في عدد الأطباء. وفي أيلول 2023 يُكشف النقاب عن قرار حكومي يقضي بتقليص تمويل الجمعيات العاملة في مجال الصحة النفسية بنسبة 70% مرة واحدة، الأمر الذي يُجبر مراكز الصحة النفسية على تقليص ساعات عملها بسبب النقص الحاد في القوى البشرية المهنية يلي ذلك إعلان رئيس “منظمة أطباء الدولة” (الأطباء في القطاع العام) بأن “منظومة الصحة النفسية في إسرائيل قد انهارت”!

في أعقاب هجوم حماس يوم 7 تشرين الأول، وجد آلاف المواطنين الإسرائيليين أنفسهم بدون مأوى، مصابين، تحت أثر الصدمة النفسية وفي ضائقة عامة قاسية. لكنّ الدولة لم تكن قادرة على الاهتمام بهؤلاء المواطنين وتوفير ما يحتاجون إليه من خدمات رفاه وصحة نفسية وغيرها، فراحت تدعو الأخصائيين النفسيين والعاملين الاجتماعيين إلى التجند للعمل تطوعاً! الفراغ الذي خلقته الدولة، بالنهج السياسي المذكور، حاولت مبادرات المواطنين والمهنيين التطوعية سدّه!

7 أكتوبر ـ تعيين المقربين أفقد الدولة القدرة على إدارة شؤونها

على مدى سنوات عديدة، شنت القيادات السياسية المتنفذة في إسرائيل حملات تحريضية هوجاء ضد “حُرّاس النظام الديمقراطي والإدارة السليمة وسلطات إنفاذ القانون”، ابتداء من المحكمة العليا والجهاز القضائي عموماً وانتهاءً بالشرطة الإسرائيلية، مروراً بالنيابة العامة للدولة والمستشار القانوني للحكومة. لكن الحقيقة التي ينبغي ألا تغيب عن البال هي أن هذا الهجوم الحاد والمتواصل والذي كان، ولا يزال، يأخذ أشكالاً مختلفة ويستخدم وسائل مختلفة، إنما يرمي إلى التغطية على المساعي المحمومة التي بذلتها تلك القيادات السياسية، ولا تزال، لتعيين أشخاص مقربين في مختلف الوظائف والمناصب الإدارية والحكومية الرفيعة وذات التأثير الجوهري على نمط إدارة الدولة ومؤسساتها، علماً بأن تلك التعيينات في غالبيتها الساحقة لم تكن جديرة ولم تكن تستوفي الشروط المطلوبة لإشغال هذه الوظائف والمناصب، وهو ما وضع تلك القيادات ومؤسسات حراسة النظام الديمقراطي والإدارة السليمة على مسار تصادميّ حتميّ.

كان الادعاء المركزي الذي استخدمته القيادات السياسية لتبرير منهجها هذا هو أن تجميع وتركيز القوة، بأكبر قدر ممكن، في أيدي الحكومة وأذرعها هو الشرط الناقص الذي ينبغي توفيره لكي تستطيع الحكومة (وأذرعها) القيام بواجباتها وتأدية وظائفها على أكمل وجه، وهو ما أُدرج تحت عنوان “الحوكمة”. وتورد “وثيقة المفاهيم” العديد من التصريحات بهذا المعنى التي أدلى بها قادة سياسيون في مناسبات كثيرة مختلفة وعلى امتداد سنوات عديدة. ففي تشرين الأول 2016، على سبيل المثال، نشرت وزيرة العدل آنذاك، أييلت شاكيد، مقالها المعنوَن بـ “سكك إلى الحوكمة” وقالت فيه: “الحوكمة الجيدة تقاس، أولاً وقبل أي شيء آخر، بمدى الإمكانية المتاحة بين أيدي وزراء الحكومة لتحديد الأهداف. الشعب وممثلوه هم الذين يتعين تجسيد إرادتهم وحسمهم ينبغي أن يكون الكلمة الأخيرة”.

في آذار 2023 تبين من استطلاع خاص أجري بين العاملين في القطاع العام أن 40% منهم يعتقدون بأن الدولة لا ترقّي المستخدَمين من منطلقات موضوعية ولاعتبارات مهنية. وفي تشرين الأول 2023 أنهت رئيسة المحكمة العليا، إستير حيوت، مهام منصبها وخرجت إلى التقاعد. لكن، للمرة الأولى منذ قيام الدولة، يرفض وزير العدل ياريف ليفين تعيين رئيس دائم خلفاً لها، وذلك على خلفية نيته المعلَنة بأنه يرغب في تعيين رئيس جديد للمحكمة العليا يكون مقرباً إليه ومقبولاً عليه، بدلاً من القاضي إسجق عميت الذي كان من المتوقع أن يشغل المنصب بعد حيوت، لأن عميت يُعتبر “قاضياً ليبرالياً”.

في أعقاب “يوم السبت الأسود” واندلاع الحرب الانتقامية ضد قطاع غزة، تبدو الوزارات الحكومية وأذرعها المختلفة في حالة من العجز التام ولا تستطيع معالجة الأزمة الناشئة، مما خلق حالة من الفوضى الواضحة ـ “وزارات حكومية تبددت، وزراء أصابهم الشلل ومنظومات مهنية أصابها الانهيار”، كما يقول معدو “وثيقة المفاهيم” ويضيفون: “وهكذا، تحول تدمير القطاع العام إلى قاعدة معيارية سياسية، وكأنها حق طبيعي للقيادة السياسية المنتخَبة”. وكانت نتيجة هذا كله، أيضاً، المس بقدرة المواطنين على مراقبة أنشطة الحكومة وممارساتها والمسّ بقدرتهم أيضاً على الدفاع عن أنفسهم في وجهها. وأبعد من ذلك، أيضاً، تم إضعاف القطاع العام بصورة عميقة، والمس الحاد بثقة الجمهور بالقطاع العام وبقدرته على تلبية الاحتياجات، إضافة إلى تقليص قدرة المهنيين في القطاع العام على تأدية مهامهم بصورة لائقة. وفي المحصلة، تبين يوم 7 أكتوبر وما بعده أن القطاع العام الذي تعرض لسنوات من التدمير المنهجي والتقليص الحاد والإفساد المتعمّد لم يعد مؤهلاً لإدارة شؤون الدولة.

شاهد أيضاً

من سحب الألوية إلى إعادة البوارج: مآزق دولة الاحتلال

يمكن أن تتعدد القراءات السياسية أو العسكرية أو اللوجستية أو حتى الاقتصادية للقرار الأخير الذي …