بات هذا السؤال محط اهتمام الدوائر السياسية الإقليمية والدولية التي تجتهد في الإجابة عنه، إذ أكد الزعماء العرب المشاركون في منتدى الدوحة السنوي، الذي اختتم أعماله في 11 كانون الأول/ديسمبر الجاري، لدى توقفهم عند الحلول المطروحة لمرحلة ما بعد الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، أنه “لن ترسل أي دولة عربية قوات مسلحة لتحقيق استقرار الأوضاع بمجرد توقف الأعمال العدائية”، وأنه “لن يوافق أحد في المنطقة على إرسال قوات إلى الميدان” لتجد نفسها أمام الدبابات الإسرائيلية. وفي حين طرحت ألمانيا فكرة “إدارة هيئة الأمم المتحدة قطاع غزة بمجرد انتهاء الحرب”، أشار جوزيب بوريل، رئيس الدبلوماسية الأوروبية، إلى أن إسرائيل “لن تكون قادرة على البقاء في غزة وسيتعين على السلطة الفلسطينية العودة إلى هناك”.
الإدارة الأميركية: عودة السلطة الفلسطينية إلى حكم غزة بعد “تجديدها”
تتبنى إدارة الرئيس جو بايدن، بشروط، خيار عودة السلطة الفلسطينية إلى حكم قطاع غزة وتوحيد الضفة الغربية والقطاع، إذ اعتبر وزير خارجيتها أنتوني بلينكن، في كلمة ألقاها أمام اللجنة المالية في مجلس الشيوخ في 31 تشرين الأول/أكتوبر الفائت، أن رهان الإدارة الأميركية هو أن تقوم “سلطة فلسطينية فعالة ومتجددة بتولي الحكم وتتحمّل، في نهاية المطاف، المسؤولية الأمنية في غزة”. وخلال لقائه الرئيس الفلسطيني محمود عباس في رام الله، في 5 تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، عبّر أنتوني بلينكن “عن رغبته في رؤية الهيكل الحكومي الذي ولد من اتفاقات أوسلو يستعيد السيطرة على غزة بمجرد انتهاء العمليات العسكرية”. بينما أكد الرئيس جو بايدن نفسه، في مقال نُشر في صحيفة “واشنطن بوست” في 18 من شهر تشرين الثاني نفسه، أنه “يجب جمع غزة والضفة الغربية معاً تحت هيكل حكم واحد تقوده، في نهاية المطاف، سلطة فلسطينية متجددة”، تعمل على التوصّل إلى اتفاق مع حكومة إسرائيلية يفضي، كما تُعلن هذه الإدارة، إلى إحياء “حل الدولتين”. ويبني المسؤولون الأميركيون آمالهم على إمكانية “استدعاء الجنود وضباط الشرطة الذين خدموا في قوات الأمن الفلسطينية في قطاع غزة قبل استيلاء “حماس” على السلطة فيه في سنة 2007، وإعادتهم إلى الخدمة الفعلية”، وخصوصاً أن هؤلاء الجنود والضباط ما زالوا يتلقون رواتب من السلطة الفلسطينية. ويبدو أن هذا الخيار لوّح به مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض جيك سوليفان خلال لقائه الرئيس الفلسطيني محمود عباس في مدينة رام الله، في 15 كانون الأول/ديسمبر الجاري، إذ ذكر جون كيربي المتحدث باسم مجلس الامن القومي أنهما “ناقشا الشكل الذي يجب أن تبدو عليه غزة بعد الحرب وكيف ستتم إدارتها وسبل تحديث السلطة الفلسطينية وتجديدها حتى تتمكن من تحمل المسؤولية عن مستقبل الشعب الفلسطيني”. وأشار مسؤولون أميركيون كبار، من جهة أخرى، إلى أن إدارة بايدن تريد “إجراء إصلاحات واسعة النطاق في السلطة الفلسطينية، لا سيما من خلال ضخ دماء جديدة” في المؤسسة السياسية، و”إدخال أشخاص جدد أصغر سناً يتمتعون بمهارات إدارية إلى دوائر صنع القرار، ويمكنهم الفوز بدعم الرأي العام الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة أيضاً، وبثقة المجتمع الدولي”، كما يمكنهم الحصول على “مساعدة دول الخليج اقتصادياً.
بنيامين نتنياهو: لا “حماستان” ولا “فتحاستان” في غزة
خلافاً لهذا الموقف الأميركي، يرفض بنيامين نتنياهو وحكومة حربه، رفضاً قاطعاً، عودة السلطة الفلسطينية لاستلام الحكم في قطاع غزة، إذ أكد، في مناسبات عديدة، أن إسرائيل “ستكون لها اليد العليا إلى أجل غير مسمى في القضايا الأمنية” في القطاع، كما هو الحال في الضفة الغربية حيث يشن جيش الاحتلال غارات أينما يريد، بما في ذلك في المدن التي يفترض أنها تخضع لسيطرة الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية، وهو ينوي تحويل قطاع غزة، بعد الحرب، إلى ما يشبه المنطقة (ب) في الضفة الغربية، بحيث تكون السلطة الأمنية فيه في يد إسرائيل، بينما تهتم بالشؤون المدنية فيه “إدارة محلية” تقود عمليات إعادة الإعمار بالاستناد إلى دعم السعودية ودول الخليج، ويمكن أن تتشكّل هذه الإدارة من تجار وأكاديميين وزعماء عشائر. وخلال مؤتمر صحفي، عقده مساء السبت في 18 تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، قال: “نحن لا نشن حرباً لنقل الحكم في غزة إلى السلطة الفلسطينية”، واتهم الرئيس محمود عباس “بعدم إدانة المجازر التي ارتكبتها قوات كوماندوس حماس” في 7 تشرين الأول/أكتوبر الفائت، وشدّد على أنه “لا يمكن وضع غزة تحت مسؤولية حكومة تدعم الإرهاب، وتشجع الإرهاب، وتموّل الإرهاب، وتعلّم الإرهاب”، في إشارة إلى المخصصات التي تدفعها السلطة الفلسطينية للأسرى في السجون الإسرائيلية ولعائلات الشهداء، وكذلك إلى البرامج التعليمية الفلسطينية. ويبدو أن هذا الموقف، الذي عبّر عنه بنيامين نتنياهو، يتبناه في إسرائيل، بصورة أو أخرى، قسم من المعارضة “الوسطية” والعديد من وسائل الإعلام. وفي 12 كانون الأول/ديسمبر الجاري، أعاد رئيس حكومة الحرب الإسرائيلية في بيان تأكيده بأن “غزة لن تكون لا حماستان ولا فتحاستان”، وأضاف: “أحب أن أوضّح موقفي: أنا لن أسمح بأن تعيد إسرائيل ارتكاب خطأ أوسلو.
التشكيك في قدرة السلطة الفلسطينية على العودة إلى حكم غزة
يشكك العديد من المحللين في قدرة السلطة الفلسطينية على العودة إلى حكم قطاع غزة جراء تراجع شعبيتها وتراجع شعبية رئيسها، وكذلك تراجع شعبية حركة “فتح”، في مقابل تزايد كبير في شعبية حركة “حماس” وقادتها، كما بيّن آخر استطلاع للرأي أجراه “المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية”، وهو معهد الاقتراع الفلسطيني الرئيسي، ما بين 1 و 3 كانون الأول/ديسمبر الجاري، بين 1231 من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، مع هامش خطأ هو 4%. فبحسب غيث العمري من “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى”، فإن “قدرة السلطة الفلسطينية على الحكم في الضفة الغربية، سواء فيما يتعلق بقضايا الأمن أو النظام المدني، محدودة للغاية”، وتساءل: “فالسلطة التي لم تتمكن من حكم الضفة الغربية، هل يمكننا أن نتوقع منها أن تكون قادرة على حكم غزة؟”. وفي حين أرجع جان بول شانيولو، مدير “معهد أبحاث ودراسات الشرق الأوسط في منطقة البحر الأبيض المتوسط (IREMMO)”، تراجع شعبية السلطة الفلسطينية في صفوف الفلسطينيين إلى “التعاون الأمني” بين الأجهزة الفلسطينية والأجهزة الإسرائيلية، الذي “صمد” في جميع الأوضاع، بحيث أنه “في كل مرة أراد [الرئيس[ محمود عباس قطع التعاون الأمني، عارضه الأميركيون ولم يفعل”، قدّر دوف واكسمان، مدير “المركز الناصري للدراسات الإسرائيلية” في كاليفورنيا “أنه مع تدمير البنية التحتية بالكامل ونزوح أكثر من 70% من السكان، فإن التحديات التي ستواجه الحكومة القادمة في غزة ستكون هائلة”، وتساءل “عما إذا كانت قدرات السلطة الفلسطينية تمكّنها من إنجاز مهمة بهذا الحجم”، وخصوصاً أن بنيامين نتنياهو “يعمل منذ سنوات على فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، ويرى في السلطة الفلسطينية مجرد عدو آخر”، كما أن “القوميين المتطرفين في حكومته سيفعلون كل ما في وسعهم لمنع تعزيز مكانة السلطة الفلسطينية في المنطقة.
بث روح جديدة في السلطة الفلسطينية
يعترف جان بول شانيولو أنه “في كل أزمة [فلسطينية] داخلية أو في كل أزمة مع إسرائيل، يظهر اسم الأسير مروان البرغوثي من جديد”، وهو الملقب بـ “نيلسون مانديلا الفلسطيني”، الذي كان قد اعتُقل، على يد السلطات الأمنية الإسرائيلية، في سنة 2002، بصفته قائد “التنظيم” في حركة “فتح” الذي أسسه ياسر عرفات سنة 1995، وحكمت عليه المحاكم الإسرائيلية في سنة 2004 بخمسة أحكام بالسجن مدى الحياة بتهمة “شن هجمات والعضوية في منظمة إرهابية”. ويتابع الباحث الفرنسي أن مروان البرغوثي لم ينقطع، وهو في سجنه، عن الحياة السياسية الفلسطينية وساهم، في سنة 2006، مساهمة مهمة في صياغة “وثيقة الوفاق الوطني” التي أعدّها الأسرى الفلسطينيون بغية توحيد القوى الوطنية والإسلامية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وأثبت، على مر السنين، أنه “الشخص الوحيد القادر على تحقيق الوحدة بين المنظمات الفلسطينية”. ويتفق الباحث الفرنسي الآخر فريديريك إنسيل، المختص في الجغرافيا السياسية وفي شؤون الشرق الأوسط، مع هذا التقدير ويوضح قائلاً: “لقد أمضى مروان البرغوثي سنوات عديدة في السجن في إسرائيل، وهو ما يمنحه بوضوح ضمانة الاستقامة والبطولة والوطنية في نظر الفلسطينيين؛ وعندما كان على رأس [التنظيم] في حركة “فتح”، كان يؤيد التحالف مع حماس”. ولكن هل يمكن لمروان البرغوثي أن يكون شخصية اليوم التالي للحرب؟ بالنسبة لجان بول شانيولو، “تظل هذه الفرضية غير محتملة، ذلك إن إسرائيل لم تستجب، في الوقت الحالي، لهذا الطلب من حماس” [الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين في مقابل الإفراج عن المحتجزين الإسرائيليين]. بينما يرى فريدريك إنسيل أن “لا شيء يضمن اليوم أن يقبل مروان البرغوثي بتولي مسؤوليات كبيرة على رأس السلطة الفلسطينية، وبصورة أكثر تحديداً في قطاع غزة”. وبحسب عضو سابق في قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، فضّل عدم الكشف عن اسمه، فإن مروان البرغوثي هو “الشخص الوحيد الذي يستطيع أن يجمع فتح، وهو مقبول من حماس”. وأظهرت استطلاعات الرأي التي أجريت، طوال سنوات، بين الفلسطينيين أنه “الشخصية الأكثر شعبية بين الشباب، متفوقاً بفارق كبير على الرئيس محمود عباس وعلى زعيم حماس إسماعيل هنية”. وفي الأوساط الدبلوماسية، يُنظر إليه أيضاً “على أنه الأمل الوحيد للمصالحة بين الفلسطينيين وتنشيط السلطة الفلسطينية.
الوحدة الوطنية مدخل إحباط أهداف الحرب الإسرائيلية
لا يمكن الحديث عن عودة السلطة الفلسطينية إلى حكم قطاع غزة قبل إحباط أهداف حرب الإبادة الجماعية التي تشنها الحكومة الإسرائيلية على قطاع غزة، وفي مقدمها هدف تهجير سكانه، وهي مهمة تتطلب تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية، وفي المقام الأول توحيد حركتَي “فتح” و”حماس”؛ فالحرب الدائرة اليوم لا تستهدف قطاع غزة وحده، بل هي تستهدف الضفة الغربية، بما فيها القدس، كذلك، ولا تستهدف حركة “حماس” وحدها بل تستهدف كذلك حركة “فتح”، وجميع فصائل المقاومة، وهو ما صرّح به بنيامين نتنياهو الذي اتهم ، خلال اجتماع مغلق للجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست عُقد في 11 كانون الأول/ديسمبر الجاري، السلطة الفلسطينية “بالرغبة في تدمير إسرائيل على مراحل”، وقال: “الفرق بين حماس والسلطة الفلسطينية هو فقط أن حماس تريد تدميرنا هنا والآن، في حين أن السلطة الفلسطينية تريد أن تفعل ذلك على مراحل. وإذا كان هناك من يعتقد بأنه يمكن القضاء على حركة “حماس” فهو واهم، وهو ما أكد عليه جان بول شانيولو الذي قال: “لا أعتقد أن إسرائيل ستنجح في القضاء على حماس، بما في ذلك جناحها العسكري؛ وحتى لو نجح الإسرائيليون، فسوف ينشأ تنظيم عسكري آخر عاجلاً أم آجلاً”. كما أكد على هذه الحقيقة- خلافاً لبعض تصريحات لا تخدم الوحدة الوطنية صدرت عن بعض مسؤولي حركة “فتح”- رئيس الوزراء الفلسطيني وعضو اللجنة المركزية لحركة “فتح” محمد اشتية، الذي صرّح، في منتدى الدوحة في قطر، أن حركة “حماس” هي “جزء أساسي من الخارطة السياسية الفلسطينية، وحديث إسرائيل عن القضاء على حماس لن يحدث وغير مقبول بالنسبة إلينا”. وفي الاتجاه نفسه، أشارت وكيلة وزارة الخارجية والمغتربين في السلطة الفلسطينية أمل جادو إلى أنه “يمكننا القضاء على الهياكل العسكرية، ولكن لا يمكننا القضاء على أيديولوجية؛ سيتم استبدال حركة حماس بأخرى، انظروا إلى الولايات المتحدة في أفغانستان! لقد بذلوا قصارى جهدهم للقضاء على طالبان، ولكن بعد سبعة عشر عاماً عادوا إلى السلطة، وقد أصبحوا أقوى، والحل الوحيد القابل للتطبيق هو إعطاء الفلسطينيين الحق في تقرير مستقبلهم”، وتابعت قائلة: “إن الحكومة الفلسطينية لم تغادر غزة قط، فهي التي تدير الإدارة الصحية ونظام التعليم، وهي التي تخصص دائما 40% من ميزانيتها، كل شهر، لغزة، وتوظف عشرات الآلاف من موظفي الخدمة المدنية هناك
وفي اعتقادي، فإن الأرضية باتت مهيأة، على الصعيد السياسي، لتحقيق وحدة وطنية تضم جميع فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وحركتي “حماس” والجهاد الإسلامي، في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، وخصوصاً في ضوء تنصل الحكومة الإسرائيلية الصريح من “اتفاقيات أوسلو”، وهو ما يفرض على قيادة منظمة التحرير أن تتحرر منها ومن التزاماتها، وكذلك في ضوء التطوّر البارز الذي طرأ على المواقف السياسية لقيادة حركة “حماس”، وهي مواقف تقترب كثيراً من برنامج الإجماع الوطني الذي أجمعت عليه فصائل منظمة التحرير. وفي هذا السياق، لا يجب أن يكون لدى أي طرف سياسي فلسطيني أوهام حول حقيقة موقف إدارة الرئيس جو بايدن، التي تستمر في تجهيز جيش الاحتلال الإسرائيلي بكل ما يحتاجه من أحدث أنواع الأسلحة، وتغطي سياسياً ودبلوماسياً استمرار حربه التدميرية، بينما ترمي في الوقت نفسه “جزرة” للسلطة الفلسطينية من خلال دعوتها إلى استلام الحكم في قطاع غزة بعد “تجديدها”، وبعد أن تكون آلة الحرب الإسرائيلية قد “قضت” على حركة “حماس”، كما تلوّح لها مجدداً بـ “حل الدولتين”، الذي اعتادت الإدارات الأميركية أن تسحبه من جعبتها كلما تأزمت الأوضاع السياسية في المنطقة واشتدت حدة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، كما فعلت إدارة الرئيس جورج بوش الابن عشية غزوها العراق وفي خضم أحداث الانتفاضة الفلسطينية الثانية، من خلال طرحها “خارطة الطريق” التي حددت سنة 2005 موعداً لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة. وإذا كانت جميع القوى الفلسطينية، بما فيها حركة “فتح”، قد وافقت على “وثيقة الوفاق الوطني ” لسنة 2006، التي أكدت “حق الشعب الفلسطيني في المقاومة والتمسك بخيار المقاومة بمختلف الوسائل”، يصبح من المنطقي أن لا تشكّل قضية وسائل المقاومة عائقاً أمام تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية، وخصوصاً في هذا الوقت الذي يقف فيه الشعب الفلسطيني أمام تحديات لا سابق لها سيتوقف مستقبله ومستقبل قضيته الوطنية على النجاح في مجابهتها.