ماذا حقق أوسـلو للأسرى؟

المؤلف: عبد الناصر فروانة

لقد جاء إعلان المبادئ في “أوسلو” بتاريخ 13/9/1993، ليفتح عهداً جديداً، ويشكّل تحولاً نوعياً في تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وظنّت أغلبية الفلسطينيين أن الاتفاقية ستحقق أحلامها. أما الأسرى، فرأوا أن المرحلة الجديدة تقضي بالإفراج عنهم، كاستحقاق آلي لأي تسوية سياسية، وهذا رفع سقف توقعاتهم، وخصوصاً أولئك الذين ينتمون إلى حركة “فتح” وفصائل فلسطينية أيّدت الاتفاق، وهم يشكلون الأغلبية. بحيث لا نكون مبالغين إذا قلنا أنهم باتوا يعتبرون أنفسهم في عداد المحرَّرين، فرفعوا العلم الفلسطيني رغم قيدهم، وأقاموا الحفلات اليومية بين جدران سجونهم، فرحاً وابتهاجاً، بانتظار اليوم الموعود للحرية. بينما عبّر الأسرى الآخرون، الذين ينتمون إلى الفصائل المعارِضة للاتفاق، عن رفضهم لِما تم توقيعه، وبأشكال متعددة.

كنت هناك أسيراً في القسم (د) مردوان 3، داخل معتقل النقب في عمق الصحراء، جنوب فلسطين المحتلة، أو كما يسمونه بالعبرية معتقل “كيتسعوت”. الآن، وبعد ثلاثين عاماً، أستذكر تلك الأيام بما شهدت، وأستحضر أمامي صور إخواني المناضلين ورفاق الدرب وزملاء القيد الذين سارعوا إلى لملمة أغراضهم الشخصية، ووزعوا ما تبقى من أمتعتهم الخاصة، وأتلفوا أملاكهم الثقافية وكراريسهم النضالية، وأحرقوا وثائقهم التنظيمية والأمنية، استعداداً لليوم القريب.

أعقبت ذلك حالة من الترقب والانتظار، رافقها الكثير من مظاهر الترهل والفوضى، الأمر الذي أرخى بظلاله على كافة مناحي الحياة الاعتقالية، وأثّر سلباً في وحدة الحركة الوطنية الأسيرة وقيَمها الثورية، وطبيعة العلاقة بالسجّان الإسرائيلي.

مرت الأيام بطيئة كسلحفاة تصعد إلى جبل، من دون تحقيق ما كان الأسرى يتطلعون إليه، ويتوقعون حدوثه، وكاد اليأس يسيطر عليهم بعد تسرُّب الإحباط إلى نفوسهم، لولا أن شيئاً من هذا تحقق بالفعل، بعد بضعة أشهر، على الرغم من خيبة الأمل، حين انطلقت أوسع عملية إفراج جماعية في الثلث الأول من سنة 1994، وأفرجت الحكومة الإسرائيلية، كبادرة حُسن نية إسرائيلية، وعلى دفعات متتالية، عن نحو 2000 معتقل فلسطيني، جميعهم من الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد أوشكت مدة محكومياتهم على الانتهاء. ثم توالت الإفراجات بموجب الاتفاقيات اللاحقة التي لا يمكن فصلها عن “أوسلو”، وهي: اتفاقية القاهرة (غزة/أريحا) الموقّعة بتاريخ 4/5/1994؛ اتفاقية طابا (أوسلو2) الموقّعة في واشنطن بتاريخ 28/9/1995؛ مذكرة “واي ريفر” الموقّعة في واشنطن بتاريخ 23/10/1998؛[1] اتفاقية شرم الشيخ في 4/9/1999.[2] ويقدَّر عدد المفرَج عنهم بأكثر من 10.000 أسير، إلى أن وصلت المفاوضات إلى جدار مسدود، حين تنصّلت الحكومة الإسرائيلية من التفاهمات ونكثت وعودها، وأمعنت في خرق الاتفاقيات، واستمرت في بناء المستوطنات وانتهاك حرمة المقدسات، فاشتعلت انتفاضة الأقصى في 28/9/2000، وبقي في السجون الإسرائيلية ما يقارب الـ 1250 أسيراً من أصل 12500، هم مجموع المعتقلين حين تم توقيع إعلان المبادئ في أوسلو، بحسب وكالة الأنباء الرسمية (وفا).

وبهدف وأد انتفاضة الأقصى وقمع الشعب المنتفض، عادت سلطات الاحتلال وشنّت حملات اعتقال جماعية، وهو ما دفعها إلى بناء سجنيْ ريمون وجلبوع، وتوسيع سجون أُخرى، وإعادة افتتاح معتقلات كبيرة كانت أُغلقت عقب توقيع اتفاق أوسلو، كالنقب وعوفر، بهدف استيعاب الأعداد الضخمة من المعتقلين الفلسطينيين.

وبعد مرور سنوات قليلة على اندلاع الانتفاضة، لجأت الحكومة الإسرائيلية إلى إطلاق سراح عدة دفعات من المعتقلين، بلغ مجموعهم نحو 2000 معتقل فلسطيني، لمعالجة الاكتظاظ داخل السجون من ناحية، وترجمةً لتفاهمات قمة شرم الشيخ في سنة 2005،[3] من ناحية أُخرى، وتحت مسميات بوادر حُسن نية، في محاولة إسرائيلية للتنصل من الاستحقاق السياسي.[4]

ومع استئناف المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، في أواخر تموز/يوليو 2013، تبقّى في السجون الإسرائيلية 104 أسرى معتقلين منذ ما قبل أوسلو، ولم تنجح صفقة شاليط (2011) في إدراج أسمائهم ضمن قوائم المحرَّرين، فاتفق الطرفان المتفاوضان، الفلسطيني والإسرائيلي، برعاية أميركية، على إطلاق سراحهم على أربع دفعات. التزمت إسرائيل بإطلاق سراح الدفعات الثلاث الأولى. ولا يزال الفلسطينيون حتى كتابة هذه السطور ينتظرون إطلاق سراح الدفعة الرابعة التي كان من المفترض تنفيذه بتاريخ 29/3/2014، وهو ما دفع المفاوض الفلسطيني إلى وقف المفاوضات احتجاجاً؛ فبقوا مقيّدين في السجون، إلى أن أمضى بعضهم مدة محكوميته كاملة، والتي تجاوزت الثلاثين عاماً، من أمثال: كريم وماهر يونس اللذان أُفرج عنهما في كانون الثاني/يناير 2023، بعد أن أمضى كلٌّ منهما مدة محكوميته كاملة، والبالغة 40 عاماً، ورشدي أبو مخ وبشير الخطيب، بعد أن أمضى كلٌّ منهما مدة محكوميته البالغة 35 عاماً، وغيرهم. أما الأسير فارس بارود، المحكوم بالسجن المؤبد (مدى الحياة)، فلم يشأ القدر أن يبقيه حياً لينتظر لحظة الإفراج، فاستشهد داخل سجنه في سنة 2019 نتيجة الإهمال الطبي، وما زال جثمانه ينتظر مَن يحرّره، بعد أن احتجزته إسرائيل إلى جانب مئات الجثامين الأُخرى المحتجزة في سجون الأموات، وما يُعرف بمقابر الأرقام وثلاجات الموتى.

بينما لا يزال 22 أسيراً، من أسرى ما قبل أوسلو، قابعين في سجون الاحتلال؛ أقدمُهم الأسير محمد الطوس المعتقل منذ 38 عاماً. وما بين فشل المفاوضات في الإفراج عنهم عبر القنوات السياسية، وعجز المقاومة عن كسر قيدهم وإغلاق ملفهم في إطار صفقة التبادل، أضحت حريتهم اختباراً جاداً للمفاوض والمقاوم، على حد سواء. بينما تبقى الكلمة العليا للمقاومة، في ظل انعدام الأفق السياسي وانسداد المسارات التفاوضية.

إن بقاء هؤلاء في السجن ومكوث غيرهم أعواماً طويلة خلف القضبان، هما نتاج طبيعي لِما اعترى أوسلو والاتفاقيات اللاحقة من أخطاء وثغرات، إذ لم تتطرق اتفاقية أوسلو إلى قضية الأسرى في بنودها ونصوصها. لقد تعاملت الحكومة الإسرائيلية مع قضية الإفراج عن الأسرى من منطلقات ما يُسمى (مبادرات حُسن النية) ووفق مقاييس إسرائيل الداخلية.[5]

أما النصوص القليلة التي وردت في بعض الاتفاقيات اللاحقة، فكانت فضفاضة وغير واضحة، ومتناقضة أحياناً، فعلى سبيل المثال لا الحصر، جاءت على ذِكر الضفة الغربية وقطاع غزة فقط، من دون التطرق إلى أسرى القدس والـ 48، أو الإشارة إلى الأسرى العرب الذين اعتُقلوا على خلفية الصراع، ولهذا كله أبعاد سياسية. ومع ذلك، أُفرج عن العشرات من هؤلاء في مناسبات عديدة. لكن ثالثة الأثافي كانت ذلك المصطلح الذي استحدثته إسرائيل في اختيار مَن يجب إطلاق سراحه، وأقصد مصطلح “الأيادي الملطخة بالدماء”، إذ اعتبرت كل يد قتلت يهودياً، أو اشتركت في قتله، يداً ملطخة بالدماء، وبالتالي، هي لا تستحق الخروج من السجن بموجب أي اتفاقية.

لقد جزّأت إسرائيل قضيتهم الواحدة إلى أجزاء متعددة، وصنّفت الأسرى إلى فئات مختلفة، وفرضت العديد من المعايير والشروط لدى اختيار المنوي الإفراج عنهم، ما بين أسرى منظمة التحرير الفلسطينية وأسرى الحركات الإسلامية، وما بين مؤيد ومعارض، وبحسب المناطق الجغرافية، ما بين أسرى الضفة والقطاع، وأسرى القدس و الـ 48، وهكذا. الأمر الذي مزّق وحدتهم وأضعفَ قوتهم.

إن عدم وجود نصوص واضحة تقضي بالإفراج عن كافة الأسرى، من دون تمييز، وفق آليات محددة وجدول زمني مُلزم بضمانات دولية، ترك الباب مشرّعاً أمام إسرائيل، للتهرب من الاستحقاقات الطبيعية لأي عملية سلمية، وفي مقدمتها إطلاق سراح الأسرى، وهو ما شجعها على التنصل من مفهوم النصوص، ومن التزاماتها بهذا الصدد، ودفعها إلى التعامل مع قضية الأسرى، باعتبارها محكومة بحُسن نياتها فقط.

إن هذه الطريقة والآليات الإسرائيلية المجحفة في التعامل مع الأسرى، بعد أوسلو، هي التي أقامت الدليل لدى الكثيرين من الأسرى على أن المسار السياسي لن يُخرجهم جميعاً في نهاية المطاف، فوضعُ المعايير وتشكيل اللجان للبحث واختيار الأسماء، يعني أن هناك مَن لا تنطبق عليه المعايير، وهو ما دفعهم، ويدفعهم دوماً، إلى مطالبة الفصائل بالبحث عن بدائل، وهذا ما حفّز بعض الفلسطينيين على اللجوء إلى خيار القوة لتحرير الأسرى، وما صفقة شاليط ببعيدة.

وفي السياق ذاته، فإن الاتفاقيات لم تُلزم إسرائيل بعدم القيام باعتقالات أُخرى، ولم تنجح في منعها من تنفيذ حملات اعتقال واسعة، فاستمرت الاعتقالات من دون توقُّف، إذ رصدت هيئة شؤون الأسرى والمحرَّرين (مؤسسة رسمية) عدد حالات الاعتقال منذ توقيع اتفاق أوسلو وحتى أيلول/سبتمبر 2022، والتي بلغت 135.000 حالة اعتقال، بينها نحو 20.000 طفل، و2500 سيدة وفتاة فلسطينية. بالإضافة إلى اعتقال نصف أعضاء المجلس التشريعي (البرلمان الفلسطيني) في دورته الأخيرة، وعدد من الوزراء، والمئات من الأكاديميين والصحافيين والعاملين في منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الدولية.[6] ولا تزال إسرائيل تحتجز في سجونها نحو 5000 أسير فلسطيني، بينهم أكثر من 450 أسيراً مضى على اعتقالهم 20 عاماً وما يزيد.

بينما التحق بقائمة شهداء الحركة الوطنية الأسيرة، منذ توقيع اتفاقية أوسلو، نحو 123 شهيداً، نتيجة التعذيب والقتل المتعمد والإهمال الطبي، كان آخرهم الأسير خضر عدنان. هذا بالإضافة إلى آخرين كثُر ارتقوا شهداء بعد خروجهم من السجن، متأثرين بما أصابهم من أمراض خلال فترة سجنهم.

ختاماً، يمكنني القول، وبموضوعية، إن “أوسلو” وملحقاته لم يكن منصفاً للأسرى، سياسياً وقانونياً، ولم يرتقِ إلى مستوى توقعاتهم وتطلعاتهم، غير أنه لم يكن مجحفاً إلى درجة كارثية، في ظل غياب صفقات التبادل خلال تلك الحقبة، وشمول الإفراجات، في إطار المسار السياسي، أسرى قدامى وممن مضى على اعتقالهم سنوات طويلة، كما شملت المئات من ذوي الأحكام العالية، وممن كانوا يمضون أحكاماً بالسجن المؤبد (مدى الحياة)، وأفرجت أيضاً عن العشرات من أسرى القدس و الـ 48 وأسرى الدوريات والأسرى العرب. هذا بالإضافة إلى أنها شملت أسرى ينتمون إلى فصائل فلسطينية عارضت اتفاق أوسلو، وتنضوي في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، إلا إن الاتفاقيات فشلت في إطلاق سراح كافة الأسرى، بسبب غياب أو ضعف النصوص بهذا الخصوص، وغياب الضمانات الدولية الكفيلة بإلزام إسرائيل.

وأنا هنا لست مجاملاً أو مدافعاً عن أوسلو، كما لم أكن مؤيداً للاتفاق في حينه؛ ولم يُفرَج عني من سجون الاحتلال بموجب الاتفاقيات الموقّعة. وأعتبر أنه من الخطأ الفادح ترك حرية الأسرى لحُسن النية الإسرائيلية، وأن أي اتفاق سياسي لا يتضمن الإفراج عن كافة الأسرى، هو باطل. فمع حرية الأسرى، نقرأ فجر حرية الوطن. وما زلت أرى أن إسرائيل، حاضراً ومستقبلاً، لا يمكن أن تفرج عن أسير واحد، ولا سيما ممن أوجعها فعلهم المقاوم، من دون ضغط مؤثر أو قوة تؤلم. لكنني أؤمن بأهمية المزاوجة ما بين الفعل المقاوم والعمل السياسي، من دون التقليل من شأن أحدهما، وما حققه أيّ منهما، مع إعطاء أهمية أيضاً للنضال الحقوقي والقانوني. ولنا في ذلك كله أمثلة عديدة.

شاهد أيضاً

من سحب الألوية إلى إعادة البوارج: مآزق دولة الاحتلال

يمكن أن تتعدد القراءات السياسية أو العسكرية أو اللوجستية أو حتى الاقتصادية للقرار الأخير الذي …