منذ توليه رئاسة الحكومة الإسرائيلية لأول مرة العام 1996، عارض بنيامين نتنياهو اتفاق أوسلو، وعرقل التقدم نحو إقامة دولة فلسطينية. لكنه في المقابل وجد نفسه “مرغماً” على العمل بموجب التزامات إسرائيل النابعة من الاتفاق. ووفرت الحرب الحالية، ونتائج هجوم حركة حماس غير المسبوق بالنسبة لإسرائيل، فرصة لنتنياهو لنقل معارضته لاتفاق أوسلو إلى مستوى آخر من الخطاب. في مساء يوم السبت 16 كانون الأول 2023 قال نتنياهو: “لن أسمح لدولة إسرائيل بالعودة إلى خطأ أوسلو المشؤوم”. هذا التصريح لا ينطوي فقط على رفض إقامة دولة فلسطينية، وإنما يحمل في طياته أيضا إشارات إلى انتهاء العهد الذي يرى نتنياهو نفسه فيه “مرغماً” على العمل بموجب اتفاقيات أوسلو، والبدء بفرض تعديلات على طبيعة الاتفاقيات المبرمة مع الفلسطينيين وبشكل أحادي الجانب. هذه المقالة تقدم قراءة في هذه التعديلات التي يمكن رصدها بين ثنايا خطابات نتنياهو.
*اتفاق أوسلو في ضوء هجمات 7 أكتوبر: عودة إلى البداية*
إذا ما جمعنا كل التصريحات المتعلقة باتفاقيات أوسلو منذ هجوم 7 أكتوبر، بالإضافة إلى البيانات الصحافية الرسمية الصادرة عن المستويات السياسية الرفيعة في إسرائيل، سيكون بالإمكان رسم معالم التحول الجديد في الخطاب الإسرائيلي المتعلق بمستقبل أوسلو. وكنا في مركز “مدار” قد رصدنا في أكثر من مناسبة أفول حكم حزب العمل الإسرائيلي الذي “أخرج منظمة التحرير الفلسطينية من تونس وقام بزرعها في قلب يهودا والسامرة”، على حد تعبير نتنياهو نفسه. وفي المقابل، صعد اليمين واليمين الجديد في إسرائيل، وهيمن على المشهد السياسي الحزبي بحيث أن التنوعات داخل المشهد السياسي الحزبي الإسرائيلي باتت محصورة ما بين أحزاب اليمين نفسها (أي: يمين علماني، يمين متدين، يمين جديد، يمين فاشي شعبوي… إلخ). ولا بد من الإشارة إلى أن طرح النقاش المتعلق بأوسلو من خلال ثنائية اليسار-اليمين قد لا يعكس ملامح اللوحة كاملة. في المقابل، قد يكون من الملائم فهم التحولات في الخطاب الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر عندما ننظر إلى اتفاقية أوسلو من منظور الأمن الإسرائيلي.
قد لا تكون في هذا المقال مساحة للعودة وتعريف مفهوم الأمن الإسرائيلي في ما يتعلق بالأرض المحتلة، اتفاق أوسلو، ومفهوم الدولة الفلسطينية (منزوعة السلاح). لكن يكفي أن نعود إلى محضر جلسة الحكومة الإسرائيلية التي ترأسها إسحق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي بين 1992-1995، وهي الجلسة التي سبقت التوقيع على الاتفاق حيث تم عرض ملامحه في حينها على الحكومة الإسرائيلية وقادة الأجهزة الأمنية تحضيرا للمصادقة عليه والشروع بمسار أوسلو بشكل رسمي. ثمة قضيتان مهمتان وردتا في هذا المحضر، ولا بد من العودة إليهما الآن:
- على الرغم من أن اتفاق أوسلو الأول (مرحلة غزة- أريحا) جرى باعتباره اتفاقاً دولياً، فإن رابين عرضه على أعضاء الحكومة للمصادقة عليه باعتباره مرحلة اختبار. وقد أبدى إيهود باراك (في حينها رئيس الأركان) عدم تحمسه للاتفاق لأنه سيقيّد قدرة الجيش الإسرائيلي على الدخول إلى كافة المناطق التي سيتم نقلها إلى الفلسطينيين. هنا، أجابه رابين بالتالي: “إذا نجم لدينا وضع لا تقوم فيه الشرطة الفلسطينية بالعمل ضد المخربين، فهذا يعني انتهاكاً للاتفاق. لذلك، يجب البدء بغزة [كتجربة] لنرى ما سيحدث… إن لم يحدث تغيير، ولم يعالجوا الأمر فسنقول للفلسطينيين: سادتي [انتهت فرصتكم]، نحن سنعود لتولى الأمن”.
- في تلك الجلسة، قارن رابين مسار التفاوض مع الفلسطينيين وصولا إلى اتفاق أوسلو مع مسار التفاوض مع السوريين في حينه والذي لم يفض إلى اتفاق سياسي. عند المقارنة، افترض رابين أن أي اتفاق مع السوريين سيكون اتفاقا مع دولة أخرى قائمة، وبالتالي قد لا يكون هناك مجال للعودة عنه في وقت لاحق، أو إلغائه. في المقابل، فإن الاتفاق مع الفلسطينيين هو اتفاق مع سكان يقعون تحت المسؤولية الإدارية والسيادية للحكم العسكري الإسرائيلي، وبالتالي قد يوفر هذا الوضع مجالا للعودة عن الاتفاق، أو لإلغائه، أو تعديله بشكل أحادي الجانب- وكلها سيناريوهات افتراضية لكنها قابلة للتطبيق طالما أنها غير مبرمة مع دولة أخرى، وإنما مع سكان تحت الاحتلال.
وبالعودة إلى “جدوى” اتفاق أوسلو من منظور الأمن الإسرائيلي، فإن الانقسام السياسي داخل إسرائيل حياله كان، منذ اغتيال رابين العام 1995، يتمحور حول ما إذا وفر اتفاق أوسلو الأمن لإسرائيل. في صلب هذا النقاش، يستحضر الإسرائيليون عمليات يحيى عياش التي أحدثت صدمة للإسرائيليين الذين لم يعهدوا في السابق حصول تفجيرات قاتلة في قلب مدنهم، ثم الانتفاضة الثانية (ومشاركة عناصر من الأجهزة الأمنية الفلسطينية فيها). وقد أعلن نتنياهو في جلسة للجنة الخارجية والأمن بتاريخ 12 كانون الأول 2023، بأن عدد القتلى الإسرائيليين في هجوم 7 أكتوبر يساوي عدد القتلى الإسرائيليين الذي سقطوا خلال اتفاقيات أوسلو التي سمحت للفلسطينيين بحمل السلاح. تشير هذه المقارنة (بين قتلى أوسلو وقتلى 7 أكتوبر من الإسرائيليين) إلى أنه بالنسبة لنتنياهو، فإن جذر الإشكالية ليس الفشل الأمني والاستخباراتي الإسرائيلي الذي رافق هجوم 7 أكتوبر، وإنما: 1) السماح للفلسطينيين بالسيطرة على مساحات من الأرض بدون أن تكون هناك سيادة أمنية إسرائيلية كاملة عليها، 2) السماح للفلسطينيين بحمل السلاح.
*كيف تريد إسرائيل تغيير اتفاق أوسلو؟*
الحجة الأساسية التي يرفعها اليمين الإسرائيلي منذ ثلاثة عقود تتعلق بالتهديد الأمني الذي أنشأه اتفاق أوسلو بالنسبة لإسرائيل. عندما تبجح نتنياهو في المؤتمر الصحافي مساء السبت 16 كانون الأول بأنه كان له الفضل بإعاقة إقامة دولة فلسطينية على مدار سنوات حكمه، فإنه كان يتجنب أي نقاش سياسي حول حق الفلسطينيين بإقامة دولة، وينظر إلى هذه الدولة فقط من منظور الأمن الإسرائيلي. في الوقت الذي ما يزال كل المجتمع الإسرائيلي في صدمة أحداث 7 أكتوبر، وقدرات حماس العسكرية، فإن هذه حجة كافية لإعادة تشكيل الرأي العام حول أخطار اتفاق أوسلو. ففي المؤتمر نفسه، صرح نتنياهو أيضا بأن “فتح وحماس متفقتان على تدمير إسرائيل، لكنهما مختلفتان على الأسلوب”، وليس أدل على الأمر برأيه سوى أن القيادة الفلسطينية في رام الله ترفض حتى الآن إدانة هجوم حركة حماس.
في بداية الشهر الحالي، وضع أفيغدور ليبرمان، زعيم حزب “إسرائيل بيتنا” الموجود حاليا في المعارضة، تصوراً أولياً لكيف يمكن أن يتم تغيير اتفاق أوسلو: “يجب إلغاء مناطق A، وتسليم المسؤولية الأمنية عليها إلى الأردن في حالة الضفة الغربية وإلى مصر في حالة قطاع غزة… هذه فرصة لإعادة عجلة أوسلو إلى الوراء”. من المعلوم بأن ليبرمان هو رئيس حزب معارض، ولا يعبر عن الخطاب الرسمي لدولة إسرائيل في وقت الحرب، ومع ذلك، فإن ما يهم في مقترح ليبرمان ليس “الأردن أو مصر”، وإنما إلغاء مفهوم “السيادة الأمنية الفلسطينية على مناطق A”.
أدناه، قراءة في تصريحات مسؤولين إسرائيليين حول مصير أوسلو بعد انتهاء الحرب. والقراءة أدناه هي تحليل وقراءة في مضمون هذه التصريحات ومعانيها، وليست عبارة عن خطة عمل رسمية. وبالتالي، لا بد من التنويه بأن الحرب الحالية لم تنته بعد، وأن ما يرد أدناه هو أكثر من مجرد رغبات ونوايا، لكنه أيضا أقل من أن يتحول أوتوماتيكيا إلى خطة عمل رسمية لعمل الحكومة الإسرائيلية في الفترة القادمة.
- *الانتقال من التنسيق الأمني- المدني إلى الإشراف الأمني- المدني*
التنسيق الأمني يجري عادة بين طرفين يرغبان في وجود قنوات اتصال وتنسيق للتشاور في الشؤون الأمنية والمدنية فيما بينهما. نظريا، هذا يعني أن كل طرف، أي السلطة الفلسطينية وإسرائيل، هو طرف مستقل نسبيا عن الآخر، وله أجندة خاصة به، بحيث يمكن الاستمرار في التنسيق الأمني والمدني، ويمكن استخدامه كورقة ضغط، ويمكن تعليقه، أو يمكن إلغاؤه نهائيا. هذا الفهم النظري يعني أن السلطة الفلسطينية هي التي تقرر شؤونها المدنية والأمنية بالدرجة الأولى، ومن ثم قد يكون هناك تنسيق في وقت لاحق مع الإدارة المدنية الإسرائيلية.
منذ أن بدأ النقاش الإسرائيلي حول اليوم التالي بعد انتهاء الحرب، أطلق نتنياهو تصريحات توحي برغبته استبدال هذا النموذج بنموذج جديد تكون فيه “إدارة مدنية” مشرفة على قطاع غزة (وفي ذهنه أيضا، وإن رمز إلى ذلك بشكل ضمني، الإشراف على المناطق الفلسطينية في الضفة الغربية). ومع أن الإدارة المدنية لم يتم حلها أو تفكيكها منذ توقيع اتفاق أوسلو حتى اليوم، إلا أن ما يقصده نتنياهو هو، على ما يبدو، إعادة الاعتبار للدور المحوري والإشرافي للإدارة المدنية كما كان سابق عهدها في فترة ما قبل أوسلو. فقد صرح نتنياهو وبشكل واضح، بأنه لا يريد سلطة فلسطينية تقوم بالإشراف على التربية والتعليم، وتخريج أفواج من الفلسطينيين المعادين لإسرائيل. فقط عندما تشرف الإدارة المدنية على شؤون الفلسطينيين المدنية (خصوصا التربية والتعليم)، فإن إسرائيل ستكون قادرة في حينه على إنتاج “الفلسطيني الجديد” الذي لا يعارض حق إسرائيل بالوجود، ولا يعيد اجترار مفاهيم حق تقرير المصير والكفاح المسلح والتحرر، على حدّ تعبيره.
بغض النظر عن قدرة السلطة الفلسطينية على المناورة في الوقت الذي تجد نفسها فيه مكبلة باتفاقيات أوسلو، إلا أنها لا تزال، بموجب الاتفاقات، عبارة عن سلطة سيادية لها قدرات تشريعية، قضائية، وتنفيذية مستقلة. ولهذا السبب، قررت السلطة الفلسطينية تشريع قانون صرف رواتب لعائلات الأسرى والشهداء، وهو ما تعتبره إسرائيل تمويلا للإرهاب، ودليلاً على قدرة السلطة الفلسطينية على “تحدي” إسرائيل وتشريع قوانينها بشكل خاص. قد يكون الاهتمام الإسرائيلي حاليا بهذه القضية يكمن في كيفية إجبار السلطة الفلسطينية على إيقاف هذا “التمويل”، بيد أن مفهوم الإدارة المدنية التي ستشرف على قطاع غزة في اليوم التالي للحرب يعني، كما يمكن قراءته من تصريحات نتنياهو، وجود آليات تضمن حق إسرائيل بالإشراف على أي تشريع فلسطيني في المستقبل، والمصادقة عليه، أو رفضه.
إن إعلان نتنياهو بأن السلطة الفلسطينية “لن تعود” إلى قطاع غزة بعد انتهاء الحرب قد لا يجب أن يقصر النقاش على هوية السلطة الجديدة التي يرغبها نتنياهو في القطاع، وإنما يجب الاهتمام أيضا بالهيكليات التي يعتزم نتنياهو فرضها على القطاع بحيث أن هذ الإشراف لن يكون فقط إداريا، وإنما أيضا تربوي. هذا قد يعني أن إعادة الإدارة المدنية إلى الحكم بشكل أكثر وضوحا من شأنه أن يحيد “الهوية السياسية والأيديولوجية” للسلطة الفلسطينية ويعيد حكم الفلسطينيين وفق أجندة الجيش الإسرائيلي والإدارة المدنية.
- *قطاع غزة منزوع السلاح*
خلال المؤتمرات الصحافية الدورية التي يظهر بها نتنياهو، طلب منه الصحافيون في أكثر من مرة أن يكف عن القول “ماذا لا يريد في قطاع غزة” وينتقل إلى الحديث بشكل أكثر وضوحا إلى “ماذا يريد في قطاع غزة”. الإجابة شبه الوحيدة التي قدمها نتنياهو في هذا المقام هي أنه يريد قطاع غزة “منزوع السلاح”. وفي آخر تصريح له قال: “الآن بعد أن رأينا الدولة الفلسطينية المصغرة في غزة… فإن الجميعيفهم ما كان سيحدث لنا لو استسلمنا للضغوط الدولية وسمحنا بإقامة دولة كهذه في يهودا والسامرة، وحولالقدس وعلى مشارف تل أبيب”.
وعلى ما يبدو، فإن نتنياهو يرمز إلى أمرين اثنين: الأول، هو أن السلطة الجديدة التي يريد لها أن تحكم قطاع غزة لا يجب أن تكون سلطة يقف على رأسها حزب فلسطيني سياسي. فقد قال: “لا نريد استبدال حماستان (أي حكم حماس الإرهابي) بفتحستان (أي حكم فتح الإرهابي)، ولا نريد الاستعاضة عن خان يونس (أي صعود المقاومة تحت حكم حماس) بمخيم جنين (أي صعود المقاومة تحت حكم فتح)”. الأمر الثاني، هو أن السلطة الجديدة لا يجب أن تحتوي على أجهزة أمنية مسلحة ومدربة كما هي الحال اليوم.
في ما يتعلق بنزع الأسلحة من السلطة الفلسطينية، فإن الأمر ينطوي على اعتبارين اثنين كما قد يرشح من خطابات نتنياهو منذ 7 أكتوبر. الاعتبار الأول، هو أن فكرة احتواء السلطة الفلسطينية على أجهزة أمنية لغرض “إنفاذ القانون”، كما تم وصف الأمر حرفيا في اتفاقيات أوسلو، قد يحتاج إلى إعادة اعتبار لطبيعة هذه الأجهزة الأمنية، قدراتها، كمية ونوعية العتاد والأسلحة المتوفرة لديها، والتدريبات التي تتلقاها. ويشير ضباط في الجيش الإسرائيلي ممن ينتمون إلى مجموعة “الأمنيون” للتفكير الاستراتيجي بأن أجهزة السطلة الفلسطينية في الضفة الغربية لديها قدرات “هجومية” و”قتالية”، وهو أمر يجب أن يدق ناقوس الخطر لدى إسرائيل والتي تعتقد بأن هذه المهارات لا تمت بصلة لمفهوم “إنفاذ القانون” المستوحى من اتفاقيات أوسلو. والاعتبار الثاني، هو أن اتفاق أوسلو الثاني (تم توقيعه العام 1995) أتاح وجود صلاحيات أمنية للسلطة الفلسطينية على مناطق A، وأن السلطة الفلسطينية هي المشرف الأمني على كل ما يحصل داخل هذه المناطق. وقد ألغت إسرائيل بشكل أحادي الجانب هذا البند العام 2002 (في أوج الانتفاضة الثانية) وسمحت لقواتها العسكرية بالدخول إلى كافة المناطق. بيد أن قطاع غزة شكل حالة “شاذة” بحيث أن الانسحاب الإسرائيلي ومن ثم الانقسام الفلسطيني وفرا ظرفا لم تتمكن فيه إسرائيل من تولي الأمن والسيادة بنفسها داخل القطاع.